رؤى

من كربلاء إلى غزة.. صناعة الأيقونة!

المشهد الأول: أكتوبر عام ٦٨٠ للميلاد – صحراء كربلاء بأرض العراق.

يلتف جيش عبيد الله بن زياد، الوالي الأموي على الكوفة، حول جثمان الإمام الحسين بن علي، سبط النبي الكريم، بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وهو لا يزال ممسكا بسيفه، وبعد أن ردد كلماته الشهيرة “إني لم أخرج أشرا، ولا بطرا ولا مفسدا، ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي”.

يتقدم أحد القتلة -من جيش ابن زياد- من جسد الإمام الحسين، ويَحْتَزُّ بسكينٍ رأس الإمام، ثم يطوف به المجرمون محمولا على سن الرمح، في ولايات دولة بني أمية، وصولا إلى عاصمتها في دمشق، إلى أن استقر الرأس الشريف في مدينة عسقلان في فلسطين، ثم نقل إلى مصر في عهد الدولة الفاطمية، ووضع في المقام المسمى باسم الإمام الحسين، والذي لا زال قائما في القاهرة حتى اليوم.

المشهد الثاني: أكتوبر عام ١٩٦٧، – أحراش بوليفيا في أميركا الجنوبية.

يتهافت الصحافيون -من جنسيات مختلفة- على التقاط صور لجثمان شابٍ وسيمٍ مُسجَّى على فراش في مستشفى بوليفي.

كان الجثمان للطبيب والثائر الأرجنتيني إرنستو تشي غيفارا، الذي قتل في التاسع من أكتوبر، بعد معركة دامية مع قوات النظام البوليفي الحاكم، والمدعوم من قبل واشنطن، والذي كان غيفارا يسعى لإسقاطه، كما فعل مع رفيق دربه فيديل كاسترو في كوبا، قبلها بنحو ٨ سنوات.

كان استعراض جثمان الثائر الأممي الذي أُسِرَ في المعركة وأعدم على يد الجيش البوليفي متعمدا؛ من قِبَل النظام الحاكم في بوليفيا، لإثبات مقتل الثائر الأسطوري وبشكل لا يخلو من التشفي.

المشهد الثالث: ١٧ أكتوبر ٢٠٢٤، – قطاع غزة:

في أوج معركة حامية بين جيش الاحتلال الصهيوني، وعدد من مسلحي المقاومة الفلسطينية في القطاع؛ يتحصن المسلحون في أحد البيوت في منطقة رفح، ويطلقون النار بكثافة صوب جنود الاحتلال.

يوجه الجنود مدفع دبابة نحو المنزل المحاصر ويقصفونه؛ ثم يطلقون طائرة مسيرة نحوه لاستطلاع مصير المسلحين.

ترصد كاميرا المسيرة شيخا جاوز الستين من عمره؛ يرتدي الكوفية الفلسطينية، ويخفي بها ملامح وجهه، وقد أصيب إصابة بالغة في يديه.

يلتفت الشيخ ويدرك وجود المسيرة؛ فيمسك بذراعه المصابة بعصا، ويلقيها تجاه الكاميرا، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

يدخل الجنود إلى المنزل بعد تأكدهم من مقتل المسلح، وهنا تكون المفاجأة.. الشيخ الذي أمطرهم بالرصاص، هو ذاته المطلوب الأول لدولتهم، كونه مهندس معركة السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، القائد القسامي السنوار.

يلتقط الجنود الصور للشيخ الشهيد، والدماء تغطي زيه العسكري، ويده قابضة على سلاحه، ظنا منهم أن حكومتهم تستطيع تسويق هذه الصورة التي قادتها إليهم الصدفة البحتة كإنجاز.

في كافة الأمثلة -المشار إليها أعلاه- كان غرض الغزاة والطغاة من التمثيل بجسد مناضل مقاوم؛ هو أن يجعلوا منه أمثولة ترهب الأخرين، وتجعلهم يخشون تقليده، والسير على دربه؛ كي لا يلقوا مصيره.

لكن هذا النهج انقلب على أصحابه، وأتى بنتيجة عكسية؛ إذ تحول الثائر في كل مرة، إلى أيقونة ومثال يتبعه المؤمنون به وبنهجه.

فرأس الحسين الطاهر الذي احتزه قتلته؛ صار مصدر إلهام لكافة الثورات التي اندلعت ضد حكم بني أمية الوراثي رافعة شعار “يا لثارات الحسين” بداية بثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد؛ مرورا بثورة المختار الثقفي ونهاية بالثورة العباسية التي أنهت حكم الأمويين.

ووجه غيفارا وهو مسجى على رخامة المشفى في بوليفيا- صار أيقونة للثورة، رسمها الشباب في كافة بلاد ما يعرف بالعالم الثالث على قمصانهم.

أما صورة السنوار الأخيرة، فسرعان ما تحولت إلى أيقونة هي الأخرى في خلال ساعات -لا أكثر- من استشهاده؛ حيث شهدت مواقع التواصل الاجتماعي تفاعلا واسعا مع تلك الصورة، وامتلأت بأعمال فنية تستلهم تلك الأيقونة.

كما انتشر موقع فيديو مصور، من قطاع غزة لأطفال القطاع في مخيمات النزوح، وهم يقلدون مشهد السنوار الأخير، ويستخدمون العصا سلاحا على طريقته.

 

إن الغزاة والطغاة بغرورهم وصلفهم وتصورهم أنهم ينهون المقاومة بقتلهم أحد رموزها؛ إنما يحولون هذه الرموز -في واقع الأمر- إلى مادة إلهام للأجيال القادمة، التي تكمل مسيرتها نحو غايتها: الحرية والعدالة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock