في حديثنا السابق، حول “دلالة الجمع في مصطلح شهود”، وصلنا إلى أن الشاهد يُجمع على شاهدين وشهود، أما الشهيد فيُجمع على شهداء وشهود؛ بما يعني أن ورود مصطلح “شهود” يؤشر إلى جمع شاهد وجمع شهيد معا، أي ـ وهذا جدير بالتأمل والانتباه ـ يؤشر إلى الحالتين معا، أي أن يكون من يأتي بالشهادة، هو “شاهد” و”شهيد” في الوقت نفسه.
يأتي ذلك من منظور أن “الشهيد” هو من حضر الواقعة؛ بما يعني أن شهادة الشهيد هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر”، أي “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”؛ أما “الشاهد” فهو “من يأتي بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث.
وبالتالي، يأتي مصطلح “شهود” ليدل على أن هؤلاء الشهود، هم في موضع “الشهادة الحضورية والمعرفية معا”؛ بما يؤكد أن مصطلح “شهود” في التنزيل الحكيم، هو مصطلح خاص أو له “وضعية خاصة”.
وقد ورد هذا المصطلح في مرات “ثلاث” في آيات القرءان الكريم.. في [المدثر: 12-13؛ البروج: 4-7؛ يونس: 61]. وتتضح دلالة هذه الوضعية الخاصة للمصطلح، من خلال الموضع “الثالث” الذي ورد فيه مصطلح “شهود” في التنزيل الحكيم. يقول تعالى: “وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ” [يونس: 61].
وكما ذكرنا من قبل، فإن الخطاب هنا حول “كِتَٰبٖ مُّبِينٍ”، تدوّن فيه كل تفاصيل الأحداث التي تحدث في الطبيعة وفي التاريخ الإنساني، أيًا كان “شَأۡنٖ” كل منها، سواء كان تلاوة “قُرۡءَانٖ” أو “عَمَل” إنساني؛ وعلى وجه العموم، أيًا كان هذا الحدث، وأيًا كان حجمه، فهو مُسجل في هذا “الكتاب المبين”، بدليل قوله عزَّ من قائل: “وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ”.
وبالتالي، فإن مصطلح “شُهُود” يرد في هذا الموضع للدلالة على أن الله سبحانه وتعالى “شهيد” لهذه الأحداث (دون تجسيد)، و”شاهد” عليها في الوقت نفسه.
فماذا إذن عن مصطلح “شاهدين”؟
قلنا إن الشاهد يُجمع على شاهدين و”شاهدون” وشهود؛ وقد ورد مصطلح “شاهدين” في “ثمان” من المرات في التنزيل الحكيم، في حين ورد المصطلح في صيغة “شاهدون” مرة واحدة.
يقول سبحانه وتعالى: “فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ ٭ أَمۡ خَلَقۡنَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ إِنَٰثٗا وَهُمۡ شَٰهِدُونَ” [الصافات: 149-150]. وهنا، يأتي السياق القرءاني ليؤكد على “الاستفتاء” كأمر إلهي؛ فقوله سبحانه “فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ” يؤشر إلى طلب الفُتيا منهم، مثل استخرج طلب الإخراج واستفهم طلب الفهم. ومن ثم، يأتي الاستفهام بغرض الاستنكار “أَمۡ خَلَقۡنَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ إِنَٰثٗا وَهُمۡ شَٰهِدُونَ”، بما يؤكد على أن “شَٰهِدُونَ” في الآية هي جمع “شاهد”، أي هل لديهم الخبرة المعرفية للشهادة بأن “ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ إِنَٰثٗا”.
أما بخصوص مصطلح “شاهدين”، يقول سبحانه: “وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكۡمَةٖ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مُّصَدِّقٞ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَٰلِكُمۡ إِصۡرِيۖ قَالُوٓاْ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ” [آل عمران: 81].. ومن الواضح أن الميثاق هنا، “مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ”، هو ميثاق معرفي وليس ميثاقا حضوريا؛ ومن ثم، فالشهادة هنا شهادة معرفية. وهذا يبدو بوضوح عبر ختام الآية الكريمة “قَالَ فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ”؛ من حيث إن الخطاب الإلهي موجه إلى “ٱلنَّبِيِّـۧنَ”، بما يؤكد أن الأمر الإلهي “فَٱشۡهَدُواْ” هو أمر بالشهادة المعرفية.
ثم، تتأكد هذه الدلالة بشكل أكثر وضوحا، عبر قوله عزَّ وجل: “وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ إِبۡرَٰهِيمَ رُشۡدَهُۥ مِن قَبۡلُ وَكُنَّا بِهِۦ عَٰلِمِينَ ٭ إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا هَٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيٓ أَنتُمۡ لَهَا عَٰكِفُونَ ٭ قَالُواْ وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَٰبِدِينَ ٭ قَالَ لَقَدۡ كُنتُمۡ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُمۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٭ قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا بِٱلۡحَقِّ أَمۡ أَنتَ مِنَ ٱللَّٰعِبِينَ ٭ قَالَ بَل رَّبُّكُمۡ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا۠ عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ” [الأنبياء: 52-56]. إذ هاهنا، من خلال الحوار الذي دار بين نبي الله إبراهيم -عليه السلام- وقومه، يتأكد أن شهادة إبراهيم على أن “رَّبُّكُمۡ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلَّذِي فَطَرَهُنَّ”، هي ـ منطقياـ شهادة معرفية.
كذلك، في قوله عزَّ من قائل: “وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِيِّ إِذۡ قَضَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ” [القصص: 44]؛ يأتي مصطلح “ٱلشَّٰهِدِينَ” للدلالة على عدم معرفة الرسول -عليه الصلاة والسلام- بأن الله سبحانه قضى “إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ”، وأنه تعالى هو من أخبر الرسول بذلك؛ وأن هذا الإخبار تؤكده الآية الكريمة السابقة مباشرة لهذه الآية، في قوله تبارك وتعالى: “وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِ مَآ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ ٱلۡأُولَىٰ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لَّعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ” [القصص: 43].. بل، إن التعبير القرءاني “وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ”، يرد بوصفه “ردا” مُضافا إلى ردود القرءان الكريم، على الاتهامات التي وجّهت للرسول الكريم؛ كما جاء في سورة النحل، في قوله سبحانه: “وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيّٞ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ” [النحل: 103].
هذه الدلالة، دلالة أن مصطلح “الشاهدين” يدل على “من يدلي بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث؛ تتأكد أيضا في قوله تعالى: “وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ” [الأنبياء: 78]. إذ، الشهادة في هذه الحال شهادة معرفية، أي شهادة خبير بحكم كل من “دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ”.
وهنا نؤكد على ما أشرنا إليه من قبل، من أن الله تبارك وتعالى هو “الشاهد” المُطلق، وأن “الشهيد” من أسمائه الحُسنى؛ ونؤكد أيضا على مقولة المفكر السوري محمد شحرور -رحمه الله- في كتابه “الإسلام والإيمان، 1996” بأن أسماء الله الحُسنى ظهرت بعد خلق الكون، وتجلّت من خلال الوجود في الآفاق والأنفس؛ فعندما كان الله سبحانه ولا شيء معه، كان “شاهدا” على نفسه بالوحدانية، و”شاهدا” على الموجودات قبل وجودها، وشهادته جلَّ جلاله هنا معرفية. أما بعد وجود الموجودات، فقد تجلت فيها الأسماء الحُسنى (سميع، بصير، شهيد…)؛ فهو، سبحانه، “شهيد” على كل شيء، وشهادته في الأشياء والخلق والموجودات هي “شهادة حضورية” (دون تجسيد)، بعد أن تشيّأت. ولهذا، فنحن لا نجد اسم “الشاهد” من بين أسماء الله الحُسنى.
وللحديث بقية.