رؤى

البنائية القرآنية.. وفارق التأويل بين الأحاديث والأفعال

في البحث حول ملامح مفهوم التأويل، قياسًا إلى “البنائية القرآنية”، واعتمادًا على أسس اللسان العربي، وصلنا إلى أن الدلالة التي يتضمنها ويشير إليها “مصطلح التأويل” تنبني – بالأساس – على الحركة؛ حركة بالشيء أو بالظاهرة، إما في اتجاه “الأصل” لاكتشاف دلالته ومغزاه، وإما في اتجاه “الغاية” لمعرفة التوجه والمصير. وإذا كان الرجوع إلى الأصل هو حركة عكسية، فإن الوصول إلى الغاية هو حركة مستقبلية تطورية نامية.

وبالتالي، ومن حيث إن هذه الحركة ليست حركة مادية، بقدر ما هي “حركة ذهنية”؛ فإن دلالة مصطلح التأويل تتمحور حول: “حركة ذهنية في إدراك الأشياء والظواهر والوعي بها”؛ من حيث إن الإدراك هو “إعطاء الأشياء والظواهر معان محددة”، أما الوعي فهو “كيفية التعامل مع معاني الأشياء والظواهر”.

وإذا كنا قد تناولنا في حديثنا السابق، دلالة تأويل “الأحلام” وتأويل “الرؤيا”، في آيات التنزيل الحكيم؛ فإننا هنا، سوف نقترب من تأويل “الأحاديث” وتأويل “الأفعال”، بالدلالة التي وردت بها كل منهما في كتاب الله العزيز.

الأحلام والرؤيا

في إطار محاولتنا مقاربة مصطلح التأويل لأجل التعرف على الدلالة التي يشير إليها، وبالتالي تحديد ملامحه كـ”مفهوم” في القرآن الكريم؛ لنا أن نقارب عددًا من النقاط تختص كل منها بمستوى دلالي محدد، ينبني على “اصطلاح” معين، تكون لفظة التأويل إحدى مفرداته. ولعل أهم هذه النقاط، ارتباط التأويل بكل من الرؤى والأحلام والأحاديث في سورة يوسف، ثم تأويل الأفعال كما ورد في سورة الكهف؛ وهو ما ينتج عنه مستويات دلالية مختلفة، تبعًا للاصطلاح الذي ترتبط فيه لفظة تأويل بأي منها.

وهنا، لا بد من التأكيد – بادئ ذي بدء – على “خطأ” ما يراه البعض: استبدالًا لكلمة “أحلام” بكلمة “أحاديث” أو بكلمة “رؤيا”، من آية إلى آية في هذه السورة، سورة يوسف. الدليل على ذلك، هو اختلاف السياقات التي وردت فيها الاصطلاحات الثلاثة: الأحلام والرؤيا والأحاديث، في السورة.

فاصطلاح “تأويل الأحلام” لم يأت إلا مرة واحدة، في هذه السورة، سورة يوسف – بل، وفي الكتاب كله – وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ٭ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ٭ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي ٭ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا…” [يوسف: 43 – 46].

أما اصطلاح “تأويل الرؤيا”، فقد ورد مرة واحدة في السورة، سورة يوسف – وفي الكتاب كله، أيضًا –  وذلك على لسان يوسف عليه السلام، في قوله تعالى: “وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا..” [يوسف: 100]. وها هنا، لا يبدو فقط اختلاف دلالة هذا الاصطلاح، عن ذاك الذي سبقه، قياسًا إلى المتحدث، ولكن أيضا يبدو ما تشير إليه الآية من معنيين مهمين: معنى التأويل ومعنى الحق.

هذا، ما وصلنا إليه من قبل..

فماذا، إذًا، عن تأويل “الأحاديث” وتأويل “الأفعال”(؟).

تأويل الأحاديث

ورد اصطلاح “تأويل الأحاديث” في مرات ثلاث، وفي سياق مختلف عن سابقيه، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ…” [يوسف: 6]؛ وفي قوله سبحانه:”وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [يوسف: 21]، وفي قوله تعالى: “رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” [يوسف: 101].

في هذا السياق، سياق الآيات، يبدو بوضوح أن تأويل الأحاديث هي مسألة خاصة بيوسف، وأنها مرتبطة بـ”تعلم” يوسف إياها عن ربه “فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض”؛ إذ، نلاحظ ارتباط اصطلاح “تأويل الأحاديث”، في الآيات الثلاث، بـ”َيُعَلِّمُكَ، َلِنُعَلِّمَهُ،َ عَلَّمْتَنِي”. بيد أن يوسف لم “يتعلم” تأويل الأحاديث كلها، ولكن بعضها، وهو ما يشير إليه تكرار حرف “مِنْ” للتبعيض.

هذا، وإن كان يشير إلى اختلاف الاصطلاحات الثلاثة، من حيث السياق الذي ورد فيه كل منها؛ إذ إن كتاب الله العزيز، أكبر وأكثر عمقًا من أن يتم فيه “مجرد استبدال كلمة بأخرى”؛ إلا أنه، في الوقت نفسه، يؤكد أن “تأويل الأحاديث” يشمل تأويل الرؤيا، وتأويل الأحلام: “حلم الملك” الذي يقوم يوسف بتأويله [كما في الآيات، يوسف: 47-49]، و”حلمي السجينين” [كما في الآية، يوسف: 41].

ويشمل إضافة إلى هذا وذاك، الإخبار عن “حدوث” أمر قبل وقوعه فعلًا، وهو ما يتبدى على لسان يوسف، في قوله سبحانه وتعالى: “قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي” [يوسف: 37]. ولأن الإخبار عن الأشياء قبل حدوثها، هي مسألة خاصة بيوسف، وأنها – بالتالي – من “تأويل الأحاديث”، لذلك اتبع يوسف تأكيده لزملائه في السجن على قدراته التأويلية، التي لا تقتصر على مجرد “تأويل الأحلام”، بـ: “ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي”.

تأويل الأفعال

وإذا كان “تأويل الأحاديث” يتمحور حول معنى الإخبار عن الأشياء قبل حدوثها، وكان هذا الإخبار ناتجًا عن “العلم” الذي أوتيه يوسف؛ فإن ثمة تأويل آخر، هو “تأويل الافعال”، يتمحور حول معنى الكشف على الدلالة الخفية للأفعال، وهو الكشف الناتج عن “العلم” الذي أوتيه العبد الصالح، كما تخبرنا بذلك سورة “الكهف”.

ففي قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح، نبأه الأخير بما تؤول (تنتهي) إليه الأفعال التي فعلها، ولم يستطع موسى الصبر عليها؛ لذا قال: “سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا” [الكهف: 78]. وبعد الانتهاء من التأويل، بالكشف عن دلالة الأفعال، قال: “ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا” [الكهف: 82].

وهكذا، تتبدى دائرة الدلالة لمصطلح “تأويل” في القرآن الكريم، فهي تشير إلى الكشف عن الأسباب الحقيقية للشيء أو الظاهرة، وتبيان ما تصل إليه حركتها من هدف أو غاية. ومن ثم، يتأكد ما ذكرناه من قبل، من أن التأويل: “حركة ذهنية في إدراك الأشياء والظواهر والوعي بها”.

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock