رؤى

من السنوار إلى جيفارا.. الشعوب تصنع رموزها.. (ملف خاص)

أصوات أونلاين:

أصوات أونلاين

أحدث استشهاد يحيى السنوار مهندس السابع من أكتوبر2023، ردود فعل واسعة أعادت إلى الواجهة مشاهد عدة من صفحات التاريخ الحافلة بالنضال ضد قوى البطش وجيوش الظلام.. تذكر كثيرون مشهد النهاية في حياة المناضل إرنستو تشي جيفارا في غابات بوليفيا، وقارنوا بين هذا المشهد، ومشهد النهاية في حياة يحيى السنوار. وصل البعض إلى نتائج مفادها أن الصراع مع الإمبريالية لم يتوقف أبدا، فهو حلقات متتابعة تثبت لنا مشاهدها حقائق كثيرة منها ما قاله المفكر اللبناني مهدي عامل وصارا من أهم شعارات المقاومة.. “لست مهزوما ما دمت تقاوم”.

******************

لا يعني اغتيال القادة الكبار في صفوف المقاومة الفلسطينية أبدا.. انهيارها أو احتمال تراجعها عن أهدافها.. تخبرنا كثير من الوقائع أن المقاومة -بفعل عوامل عديدة- تصبح أكثر قوة وأثبت قدما، وهو ما يحاول الأعداء التعامي عنه.. ظنا منهم أن حساباتهم للقوة تنطبق على هؤلاء الرجال الذين عز مثيلهم.

دون مبالغة ولا جنوح إلى العاطفة الجياشة بكل مشاعر الأسى، على فقد قائد عظيم بقامة السنوار.. نرى في استشهاده البطولي وجها آخر للنصر، وصورة من صور السمو الإنساني التي ستمنح القضية روحا جديدة ومددا كبيرا وقوة أمضى على طريق النصر المعزز.. وما هو على الله ببعيد.

————————————————————————————–


استشهاد السنوار.. استفتاء جديد على شعبية المقاومة

بقلم: ماهر الشيال

ربما تكون المعركة، هي معركة وعي في المقام الأول.. وعي عام مستهدف بالتضليل وإحلال المفاهيم العكسية على نحو يتسارع بجنون.. لا تكلُّ الآلة الإعلامية الغربية و أذنابها في عالمنا العربي المكلوم، من الترويج المحموم لعدم جدوى المقاومة، وأن الاستسلام للعدو أمر لابد منه – قالها أحدهم صراحة دون خجل في برنامج على قناة أمريكية ناطقة بالعربية- الرضوخ والتفريط وإلقاء السلاح ومحبة الأعداء وموالاتهم.. أمور يدعو لها اليوم أناس يبدون من بني جلدتنا، لهم نفس الملامح وذات الهيئة ويتحدثون لغتنا مستخدمين تلك المفردات الداعية إلى القبول التام بالهزيمة النهائية.. بالرغم من أن كثيرا من الوقائع الآنية؛ تؤكد أن لا شيء نهائي، وأن الصراع بأبعاده المتعددة – رغم عدم تكافؤ القوى- لا يمكن الجزم بأنه محسوم.. هذا الخطاب “المتماهي” يلقى -للأسف- صدى لدى البعض بفعل عوامل كثيرة؛ تتعلق بعقود طويلة من التغييب وإهدار القيم المجتمعية الحامية لثقافة الشعب، والدعوة إلى الواقعية في التعامل مع مثل تلك القضايا الحساسة.. حتى أن الخطاب السياسي لبعض الأنظمة العربية، لم يعد يستنكف من استخدام تلك النغمة التي ترى مهادنة العدو والانقياد له؛ بل ومساعدته علنا في تنفيذ ما يرمي إليه.. من طبيعة الأشياء. في مرحلة تاريخية يُسفر الغرب فيها عن وجه لا أخلاقي إجرامي لا يتكلف التبرير لقتل الأطفال والنساء وقصف المشافي ومخيمات النازحين؛ بل يُعلن أن هذه الأفعال اللاإنسانية مقبولة لديه تماما؛ إذا كان الهدف منها الحفاظ على أمن وسلامة الكيان المؤقت -راجع تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية الأخيرة- في المقابل تتبنى بعض المنابر  الإعلامية الناطقة بالعربية؛ مبدأ غريبا ينطلق من وجهة النظر القائلة بأن الجنون الغربي والتوحش الصهيوني غير المسبوق؛ لابد أن يُقابل من جانبنا بشيء من الحكمة والتعقل والتروي والأناة؛ حتى لا تندفع الأوضاع كلها إلى المواجهة الشاملة، التي من الممكن أن تتطور إلى حرب نووية تفني الكوكب التعيس. وهذا المنطق الذي ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، يلقى قبولا لدى البعض ممن ينزعون إلى التهدئة والرضا بالفتات من حياة هي دون الحياة بكثير.

‎ذلك العمل الدءوب المتواصل، يظن القائمون عليه أنه حقق قدرا من النجاح، وأن تلك الرؤى “الانهزامية” التي يروجون لها – صار لها جمهور في أقطارنا العربية؛ بل يرى هؤلاء أنهم قطعوا شوطا كبيرا، في اتجاه محو الذاكرة العربية؛ والتكريس لتلك “السردية” التي يحشون بها العقول؛ لكن ذلك كله ينهار ركاما بائسا، ويتحول إلى كومة من التُّرهات؛ مع حدث بحجم استشهاد القائد البطل يحيى السنوار الذي قضى أمس “مقبلا غير مدبر” قابضا على سلاحه مواجها العدو، حاسرا فوق الأرض المباركة، وليس في نفق من أنفاق القطاع، كما كان يَدَّعِي إعلام العدو وبعض المنكفئين في وسائل إعلام عربية ناطقة بالعبرية!

‎الحدث -بجلاله وقيمته ومدلولاته المتعددة- يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وهو بمثابة استفتاء على القيادة وتأييد النهج المقاوم في وطننا العربي.. الذي نرى شعوبه اليوم- رغم الظروف بالغة القسوة والتعقيد- على قلب رجل واحد في نصرة المقاومة، وفي الإيمان بجدواها وفاعليتها في مواجهة صلف العدو ووحشيته، والتي تكشف عن سوء وضعه وخيبته وإدراكه أنها معركته الأخيرة، مع معرفته التامة أنها معركة تتأبى على الحسم، وأن خوض معركة بتلك المواصفات، خيار خاسر لا يمكن أن يكتب له فيه الانتصار.. فالشعوب المقاومة المؤمنة بحقها، لا يمكن كسرها على هذا النحو أبدا.

‎بالأمس اغتال العدو أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله وعدد من قادة الحزب.. ولم يكتف العدو بالقصف المتواصل لمواقع المقاومة في الجنوب؛ بل أقدم كعادته -بغباء منقطع النظير- على التقدم البري، وهو ما عرّضه لخسائر كبيرة في الجنود والمعدات حسب مصادر موثوقة.. لقد ظن العدو الصهيوني أن اغتيال قادة الحزب، سَيَفُتُّ في عضد المقاومة؛ لكنه فوجئ بشراسة قوات الرضوان في القتال، على نحو ربما لم يعرفه من قبل.

‎لا يعني اغتيال القادة الكبار في صفوف المقاومة الفلسطينية أبدا.. انهيارها أو احتمال تراجعها عن أهدافها.. تخبرنا كثير من الوقائع أن المقاومة -بفعل عوامل عديدة- تصبح أكثر قوة وأثبت قدما، وهو ما يحاول الأعداء التعامي عنه.. ظنا منهم أن حساباتهم للقوة تنطبق على هؤلاء الرجال الذين عز مثيلهم.

‎دون مبالغة ولا جنوح إلى العاطفة الجياشة، بكل مشاعر الأسى على فقد قائد عظيم بقامة السنوار.. نرى في استشهاده البطولي وجها آخر للنصر، وصورة من صور السمو  الإنساني التي ستمنح القضية روحا جديدة ومددا كبيرا وقوة أمضى على طريق النصر المعزز.. وما هو على الله ببعيد.

————————————————————————————–


الصورة والأسطورة في مواجهة الموت

الصورة والأسطورة في مواجهة الموت

بقلم عزمي بشارة، نقلًا عن العربي الجديد

انتشرت بعد استشهاد يحيى السنوار مُقارناتٌ متعلقةٌ بصناعة الأسطورة انطلاقاً من صورة نهاية المقاتل. ومن الطبيعي أن أول ما يخطر ببال كُتّابٍ ذوي أصول يسارية المقارنة بين صورتين: صورة فعل المقاومة الأخير للسنوار، وصورة تشي غيفارا بعد إعدامه حين عُرِضَ أمام الصحافة مسجّىً محاطاً بضباط الجيش والمخابرات.

لا يقاوم الجلادون إغراء عرض الصور للعموم تباهياً بإنجازهم بعد أن دأبوا على صنع أسطورة الخصم المستهدف (المطلوب حياً أو ميتاً)، التي تؤصّل الشر في فردٍ، وتُنسب إليه صفاتٌ من نسج خيالهم وعلى قياس مخاوف جمهورهم. وبعدما يشخْصِنون الشر/ القضية يقعون في الشرك الذي نصبته دعايتهم. فما دام الأمر متعلقّاً بشخص، لا بد من عرض نهايته على يدهم، واستعراض تجسيدهم قدَرَ أعدائهم المحتوم. يُعميهم هذا الإغراء عن رؤية ما بينته التجارب بشأن المخاطرة في نشر الصورة، فقد تصنع الأسطورة المضادّة. ولذلك، لم تكتف إسرائيل بما سرّبه الجنود وأفسد الدراما التي تاق بنيامين نتنياهو إلى أن يكون بطلها، وأصدرت رسميّاً الشريط الذي سجلته الطائرة المسيّرة، فألهبت بذلك حماسة ضحايا المظلومين على طول المنطقة وعرضها.

يصنع الأساطيرَ الساسةُ وكُتّاب التراجم والأخبار والأدباء والإعلاميون، ولا تُقصّر الثقافة الشعبية كذلك في صنعها، ويفكّكها المؤرّخون. أما المؤرّخ الذي يسهم في صنعها، فأصبح في عصرنا يعد خائناً لمهنته. بيد أن مصدر الأساطير، موضوع هذا المقال، ليس تزييف الوقائع، ولا غايتها تفسير الظواهر بحكايةٍ حتى يأتي المؤرّخ فيجلو الزيف ويُصحِّح المغالطات، بل يعود إلى تأويل الصورة. هكذا أوَّلَ الناقد الأدبي البريطاني جون بيرغر الصورة الفوتوغرافية الأخيرة لتشي غيفارا بتشبيهها بلوحتين؛ إحداهما لوحة لرامبرانت بعنوان “درس في التشريح للدكتور نيكولاس تولب”، والثانية لأندريا مانتينا بعنوان “بكاء حول جثمان المسيح”.

وكما هو معلوم، أُعدِم غيفارا بإطلاق تسع رصاصات على مواضع مختلفة في جسمه؛ لتمويه إعدامه من دون محاكمة، وكي يبدو كأنه قُتل في معركة. لكن الكذبة لم تعمّر أياماً، وانتشرت واقعة الإعدام بأمرٍ من الرئيس البوليفي يوم 9 أكتوبر/ تشرين الأول 1967.

وظهرت صورة السنوار يرمي الطائرة المُسيّرة بعصا، بعد أن استخدم ما في جعبته من رصاص وقنابل يدوية في اشتباكٍ مع جنود لم يخطر ببالهم أنهم يواجهون من يخيفون باسمه أطفالَهم. كانت هذه صورة الملثم المنهك والجريح الذي يواجه مع رفيقيه مصيره المعروف سلفاً، مقاتلاً في منزل هجَّر الاحتلال أصحابه مثل جيرانهم وأهل مدينتهم. نسف ما نقلته الصورة كلَّ ما دأب الاحتلال على ترويجه عن القيادي الذي يمضي الحرب مختبئاً في الأنفاق، راهناً حياته بحياة الرهائن. وأطلقت المواجهة الأخيرة واستقبال الموت برباطة جأش العنان لخيال الناس، وربما سوف يركّبون على الأسطورة أساطير. صحيح أنهم شهدوا خلال عام كامل مواجهة مئات المقاومين الموت بشجاعة، ولكنهم شهدوا هذه المرة ما يشاهده العالم بأسره معهم، وجدوا رمزاً مضاداً لروايات الاحتلال ولمخاوفهم هم أيضاً منتصبَ القامة في زمن دوس آلة الحرب الإسرائيلية على كل ما يرتفع عن الأرض، وفي ظل محاولات إسرائيل ومعها حلفاؤها الدوليون والإقليميون تركيع المعنويات أيضاً. لقد ضاعفت إسرائيل رمزية السنوار بتركيز حقدها عليه.

فيما عدا تأويل صورة المقاوم في نهاية طريقه بالأسطورة، لا تتقاطع طرق الرجلين ولا تتشابه. انتمى غيفارا، الأرجنتيني الأصل، إلى عائلة ميسورة الحال، تعود إلى أصول إسبانية وإيرلندية. درس الطب وتبنّى الفكر الماركسي. عندما تقرأ سيرته الملحمية تستغرب من عدد الهوايات الرياضية التي مارسها شابّاً، وتنوّع اهتمامات طالب الطب بالفن والأدب والفلسفة وغيرها. ابن طبقة برجوازية اختار جانب المظلومين أخلاقيّاً، لكنه بالتأكيد لم يكن منهم. استنتج من جولته على درّاجة نارية في أرجاء أميركا الجنوبية أن مصدر الظلم فيها واحد، وأن الثورة يجب أن تكون واحدة، وأنها تواجه عدوّاً واحداً هو الإمبريالية الأميركية (وشركاتها الكبرى مثل يونايتد فروتس)، التي عدّها أساس الظلم والتخلّف في هذه القارّة. انضمّ غيفارا إلى الثورة الكوبية، وأصبح، بعد إطاحة رئيس كوبا فولغنسيو باتيستا في عام 1959، وزيراً ومحافظاً للبنك المركزي ومبعوثاً لكوبا إلى دول عديدة. لكن سعيه إلى خلق البؤر الثورية في أميركا الجنوبية وأفريقيا انتهى به معزولاً مع بضع عشرات من المقاتلين في جبال بوليفيا النائية وسط فلاحين لم يتقبّلوا أفكاره ولا خطابه. ولم يتمكّن من التفاهم حتى مع الجماعات المسلّحة الأخرى. أما أسطورته، أسطورة تحدّي الظلم في أي مكان وفي أسوأ الظروف، ومقولته إن مهمّة الثوري أن يصنع ثورة، فراجتا في أوساط الشباب اليساريين الذين حملوا صورَه الأيقونية خلال حراك الشباب والطلاب في أوروبا الغربية والولايات المتحدة في عام 1968 وحتى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي. أصبح غيفارا رمزاً من رموز الثورة الثقافية والثقافة المضادّة للمؤسّسة الحاكمة؛ ثقافة أهلهم في الحقيقة. أما أثره في استراتيجيات النضال ضد الإمبريالية والدكتاتوريات والتغيير الفعلي فظل محدوداً. وقلّد بعض الشباب مظهره من دون أن يتّبعوا خياره في الكفاح الأممي ضد الإمبريالية الأميركية وشركاتها متعدّدة الجنسيات. وما لبثت الديمقراطيات الغربية أن احتوت صورته بوصفها جزءاً من ثقافة البوب في الفن والأدب والسينما. ومن هناك سلكت الدرب المألوف إلى المجمعات التجارية؛ حتى أصبحت صورته تُطبع على أكواب القهوة وقمصان “التيشيرت”.

واستشهد السنوار وهو يحارب الاحتلال في وطنه وليس في بلد آخر. إنه سليل عائلةٍ من اللاجئين الفلسطينيين، ابن الفئات الفقيرة المظلومة التي تشاركت العيش وتقاسمت الضيم في قطاع غزّة. لم تسنح له فرصة ممارسة الهوايات، ولا أن يجوب الوطن العربي؛ فالظلم كله الذي يريد متمرّدٌ أخلاقيٌّ باحثٌ عن هوية ذاتية أن يستكشفه، كان يحيط به من كل جانب حيث يعيش. دخل السجن في عمر مُبكِّر. كان السجن مدرسته، وأصبحت أخويّة نزلاء السجن أسرته. وخرج منه بعد عشرين عاماً إلى قطاع غزة المحاصر، حيث مارست حركته السلطة. لم يسأم السلطة ويغادرها لكي يصنع ثورة في مكان آخر؛ فاحتلال فلسطين مزمنٌ ومديد. صحيحٌ أنه أصبح جزءاً من السلطة التي تدير قطاع غزّة، لكنه لم يُغادر مزاج مقاومة الاحتلال وخطابها. لم يغادر فلسطين إلّا مرة واحدة إلى مصر. لم يتبنّ السنوار فكراً أمميّاً أو يسارياً أو خطاب ثورة عالمية، وأقصى ما بلغه فكره المصالحة بين إسلاميّته ووطنيته؛ فقد كان إسلامياً وطنياً ينشد الوحدة الوطنية. أصبحت هذه المحلية، هذه الحياة العريضة في مكان ضيق، طريقه إلى العالمية. وعاش حياة قصيرة بما يكفي ليطبق صيته الآفاق.

(2)

بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تشكلت جوقة عالمية بقيادة إسرائيلية، وأرسلت العنان للدعاية التي تحمّل حركة حماس، والسنوار شخصيّاً، ليس مسؤولية ما ارتُكب في ذلك اليوم بحق مدنيين إسرائيليين فحسب، بل تُلقي عليهما أيضاً وزر ما ترتكبه إسرائيل في حربها الممتدّة على غزّة، بحجّة أن ما تقوم به من إبادة سببها عملية طوفان الأقصى التي رُبطت به. إنها فرية الدم في مراتع الكذب. تخترع خطيئة أولى غير الاحتلال، فتُذنَّب الضحية، ويُبرَّأ المجرم خلال ارتكابه الجرم المشهود. وقد نسج بعض العرب على منوالها واحتذوا بمثالها؛ فهؤلاء على ما عهدناهم مظنّة الكذب ومطية الهذر، لا يُعتبَرُ لهم مقالٌ، بتعابير ابن خلدون. نقول هذا على الرغم من موقف مشرّدين عديدين بلا مأوى في غزّة نفسها منذ ذلك اليوم الذي فتح عليهم أبواب جهنم. في هذه الحالة أيضاً، لا يصحّ لوم ضحايا حرب الإبادة الذين فقدوا كل شيء، الهائمين بين الركام والخراب، حاملين ما تبقّى من عالمهم في أكياس بلاستيكية، وهم لا يؤمنون بأسطورة السنوار ولا بأسطورة غيره. لا تكمن المشكلة هنا، بل في الذين لم يدفعوا أي ثمن، ويتحالفون مع من يرتكب الفظائع، ويشمتون بضحاياها، ويحمّلون المقاومة المسؤولية عن فظائع الاحتلال.

نُصاب بالدهشة لتكرار اسمه على ألسنة زعماء الدول الغربية الكبرى الذين ظهروا في الإعلام بعد استشهاده. يجهلونه، ويردّدون أسطورة إسرائيل عنه؛ فيعدّونه العائق أمام وقف إطلاق النار، ويستقبلون العائق الفعلي (نتنياهو) وكأنه أحد قادة العالم المتحضّر، حتى بعد ما تعامل معه الادّعاء في محكمة الجنايات الدولية بوصفه مجرم حرب.

أفظع الفظائع، قصف المدارس والمستشفيات، ولا تردعه أشلاء الأطفال، والذي يُجسّد أحط اجتماع لصفاتٍ بشرية، ألا وهو اجتماع الجبن مع القسوة السادية، والخسّة مع الغرور، والوضاعة مع الاستعراضية، والشغف بالمظاهر – يصافحه زعماء في الغرب، ويقف له برلمان أعظم دولة في العالم لتحيته. إنهم يتنفسون الصعداء لمقتل الفقير ابن الفقير الذي لم تطأ قدماه بلادهم ولا بلاد غيرهم، ولم يحتلّ أرضاً لأحد.

يتعذّر احتواء الرأسمالية الاستهلاكية الغربية صورة المُلثّم المجاهد ضمن هوامش التعددية الثقافية وتنوّع المشهديات، خلافاً لصورة غيفارا؛ فهي صورة كأداء صعبة الاحتواء، وذلك على عكس استيعابها السلس اليسير من المظلومين عموماً في بلداننا. فيمكنك أن تلتقي نموذج السنوار في أي مخيّم لاجئين، أو قرية أو حارة فلسطينية: ما من زي خاص به، ولا حتى محاولة للتميّز. خطواته القصيرة والسريعة وجسمُه المشدود، والغضب البادي على ملامح وجهه، وهو الغضب الذي قد تنفرج عقدُه بسرعة عن ابتسامة لدى مقابلة الأطفال والشباب والأسرى السابقين، العفوية التي تعني أيضاً عدم اصطناع التواضع بلا سبب، الثقافة المحدودة التي يوسع الذكاء وسرعة البديهة حدودها، الانتقال السريع من البراغماتية والنزعة العملية جداً إلى التصلّب الحاد، كما في خيبة الأمل من عدم تجاوب “العالم” مع مسيرات العودة السلمية الغزيرة الضحايا لرفع الحصار عن القطاع. انتمى إلى حركة سياسية مثل عشرات الآلاف من الشباب الفلسطيني، ولكنه وجد ذراعاً مُسلحاً فيها يرفعه إلى القيادة السياسية. وكان ممكناً أن يواصل نضاله ضمن صفوف التنظيم مثل أي مناضل آخر. لإسرائيل مشكلة حقيقية مع نموذج السنوار، فهو أكثر انتشاراً مما يتصوره مستعربوها جميعاً.

عند استشهاده، شعر الفلسطينيون والمصريون والأردنيون وغيرهم من العرب والمسلمين في مشرق الأرض ومغربها بأنه واحد منهم. ولأنه منهم، اختلط الحزن بالكبرياء وسط الكارثة. تعاطفوا مع الملثم الجالس على أريكة في المبنى المهجور؛ فقد حملت الصورة دلالة عزلة الفلسطيني المقاوم في هذا الإقليم، ومنحتهم صور مقاومته الشعور بالكبرياء بسبب كلية حضور الكرامة في مقابل فقدانها من جانب أنظمة عربية وإعلامها. يصعب أن يستوعب الساسة والإعلاميون الغربيون هذه الواقعة.

أمضينا سنواتٍ في دحض نظريات تنافر الثقافات، ولكن ذلك لا يُفترض أن يعمينا عن رؤية التناقض بين أسطورتي المقاومة والشرّ. لقد بات هذا التنافر فيصلاً بين من يقفون مع كيان استعماري ويتفهمون “دفاعه عن نفسه” بإبادة شعبنا ومن يقفون في معسكر ضحايا الاحتلال والظلم، سواء يختلفون مع السنوار ويرفضون خياراته أم يتفقون معه ومع حركته.

————————————————————————————–


من غسان كنفاني إلى السنوار.. في مديح من اختاروا النِّدْيَّة!

بقلم: عمرو حسين

عمرو حسين“لا تَمُتْ قبل أن تكون نِدًا” بهذه الكلمات التي ضمّنها مجموعته القصصية “أرض البرتقال الحزين” لخّص الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، فلسفته الحياتية في مواجهة العدو المحتل لأرض بلاده، والتي جسّدها بأفعاله منذ مولده عام ١٩٣٧، وحتى استشهاده في عملية اغتيال صهيونية غادرة في بيروت عام ١٩٧٢.

أغلب الظن، أن كنفاني لو كان بحث عن بطل يجسد فلسفته، التي ضمّنها أعماله الأدبية، والتي تختزلها المقولة السابقة، لما وجد خيرًا من القائد القسامي السنوار الذي مضى إلى لقاء ربه شهيدا في ١٧ أكتوبر ٢٠٢٤، في أوج معركة “طوفان الأقصى” التي كان أحد أبرز قادتها ومهندسيها.

على مدار مسيرة نضالية -تجاوزت الثلاثين عاما- لم يقبل السنوار بأقل من أن يكون نِدا لعدوه وجلاده، بداية من الانتفاضة الأولى في الثمانينات، التي أدين خلالها أمام محكمة صهيونية، بسبب إعدامه لعدد من عملاء الاحتلال.

أتاحت تجربة السجن للسنوار الاطلاع على عقلية العدو وتاريخه، من خلال اتقانه للغة العبرية ومواظبته على قراءة كل ما يتعلق بالوضع الداخلي الصهيوني، فكتب عدة دراسات وأبحاث تناولت هذا الوضع إلى جانب رواية أدبية بعنوان “الشوك والقرنفل”.

ويبدو أن توق شعب فلسطين إلى الحرية؛ انعكس في سلوك السنوار الذي سعى للهرب من سجنه أكثر من مرة، وعوقب بسبب ذلك من قبل سلطات الاحتلال.

ثم كان خروج السنوار من سجنه في صفقة تبادل أسرى بين المقاومة والاحتلال عام ٢٠١١، لتبدأ مرحلة جديدة من مقارعته للعدو، الذي بات مُطّلِعا على عقلية وكيفية تفكير قادته.

قاد السنوار المقاومة في قطاع غزة على مدار سنوات، وأنهى وجوده في منصب قيادي ما كان من فجوة بين قيادة المقاومة السياسية والعسكرية، إذ بدا وكأن كلا الجناحين التحما في شخصه.

وزاد هذا الالتحام مع انطلاق معركة طوفان الاقصى في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، حيث اعتبر الاحتلال أن السنوار هو العقل المدبر لتلك العملية المركبة، والتي لم يواجه الاحتلال مثيلا لها منذ حرب أكتوبر عام ١٩٧٣.

وجاء اغتيال العدو للقيادي إسماعيل هنية ليدفع بالسنوار إلى الواجهة، حين اختير خلفا لهنية؛ ليجتمع جناحي المقاومة: السياسي والعسكري لأول مرة في قيادة جامعة.

وعلى مدار عام كامل، رسم الإعلام الصهيوني صورة للسنوار بوصفه شخصا يختبئ في أنفاق المقاومة، في قطاع غزة، ويتخذ من الأسرى الصهاينة دروعا بشرية يحتمي بها.

لكن السنوار.. الذي ذكر في حوار تلفزيوني أنه يبغض البدلة وربطة العنق، وأنه يرتديها مضطرا نزولا على رغبة رفاقه في المقاومة أبى إلا أن يُكَذِّبَ رواية العدو.

فأتت معركته الأخيرة، والتي خاضها مع جيش الاحتلال في منطقة رفح، لتكشف عن صورة أيقونية مخالفة لكل ما ادعاه العدو.

صورة لقائد لا يختبئ ولا يحتمي في نفق، وإنما يقاسم مقاتليه كسرة الخبز وشربة الماء، ويقبض على سلاحه؛ حتى الرمق الأخير، ويأبى أن يموت حتى “يكون نِدًا”.

جاءت صورة السنوار -وهو في كامل الزي العسكري- لتعيد الى أذهان الأمة نماذج مماثلة؛ ظن البعض أنها انتهت للقائد الذي لا يقبل بأقل من أن يقضي في الميدان: الشهيد يوسف العظمة في سوريا والشهيد عبد المنعم رياض في مصر.

لعل كاتب هذه السطور لا يبالغ حين يقول إن صورة السنوار أحرجت العدو من ناحية، وأحرجت القيادة التي نُصِّبَتْ لسنوات متحدثة باسم الشعب الفلسطيني.

تلك القيادة التي ألقت السلاح واستبدلته به حقيبة أوراق واستبدلت بالميدان طاولة المفاوضات، وأخذت شعبها إلى صحراء تيه جديدة، منذ اتفاقيات أوسلو وحتى اليوم.

ولعلي لا أبالغ أيضا إن قلت أن جُند المقاومة -التي قادها السنوار- لسنوات سيستمدون الإلهام من قائدهم الشهيد الذي قضى٬ بتعبير أدبيات اللغة العربية “مُقبِلا غير مُدبِر” وسيسيرون على دربه لا يقبلون بأقل من أن يكونوا أندادا.

————————————————————————————–


لماذا سيعيش السنوار طويلا؟

بقلم: عبد الله السناوي، نقلًا عن عروبة 22

كأن الشاعر الفلسطيني محمود درويش يخاطب رجلًا لم يره، ويروي واقعة لم يعاصرها عندما أنشد لأول مرة في قاعة بيروتية قصيدته الملحمية “مديح الظل العالي”: “حاصر حصارك.. لا مفر، سقطت ذراعك فالتقطها! وأضرب عدوك.. لا مفر، وسقطت قربك، فالتقطني! واضرب عدوك بي، فأنت الآن حر!”.

كانت تلك صورة تخيلية أراد بها وصف الأجواء الخانقة، التي تخيّم على مستقبل القضية الفلسطينية، داعيًا إلى المقاومة بالأظافر والأيادي المكسورة، فيما الحصار يشتد على بيروت لإنهاء وجود منظمة التحرير والأقنعة تسقط عن الوجوه واحدًا إثر آخر.

“سقط القناع عن القناع، سقط القناع، لا أخوة لك يا أخي”.. لم يدرِ أنّ ما تخيّله شعرًا قبل إجبار منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة بيروت في أغسطس/آب (1982) سوف يحدث واقعًا في أكتوبر/تشرين الأول (2024) عند استشهاد يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، في ذروة حرب تستهدف اجتثاث القضية الفلسطينية شعبًا وأرضًا.

في الحساب الأخير، فإنّ هجوم السابع من أكتوبر (2023) الذي خطط له وقاده، رغم كل التضحيات والآلام الهائلة، أعاد إحياء القضية الفلسطينية بعدما كان الظن أنها دخلت دفاتر النسيان واستدعت تضامنًا شعبيًا وطلابيًا غربيًا معها لم يكن متصورًا.

فكرة التضحية في سبيل قضية عادلة حتى الرمق الأخير تلخصت بالصور التي التقطها قاتلوه، مقاتلًا جسورًا ببندقية كلاشينكوف وقنابل يدوية دون حراسة تفترضها قيادته للمقاومين، فوق الأرض لا في نفق يختبئ فيه وراء أسرى ورهائن.

بذراعه المصاب ألقى عصا على مسيّرة صغيرة حلقت فوقه تستكشف المكان.

الصور فندت الدعايات الإسرائيلية، التي حاولت شيطنته ووصمه بالإرهاب.

“أنا يحيى السنوار، لن نتعرض لكم بسوء وأنتم في أمان هنا”.. كانت تلك رسالة زعيم “حماس” للأسرى الإسرائيليين المحتجزين في أنفاق غزّة، كما نقلها من أفرج عنهم بالصفقة الأولى.

استدعى مشهد استشهاده بتفاصيله الإنسانية والسياسية إلى الذاكرة العامة صورة الزعيم الأممي “أرنستو تشي جيفارا”.

لم يقصد الإسرائيليون تكريم “السنوار” بإذاعة الشرائط المصورة، أرادوا العكس تمامًا، غير أنّ النتائج جاءت على عكس ما تصوروا.

“تسقط الأجساد لا الفكرة.. المقاومة فكرة والفكرة لا تموت”.. كانت تلك عبارة ملهمة للروائي الفلسطيني اليساري غسان كنفاني، الذي اغتالته إسرائيل في بيروت.

“يا إلهى إنه يشبه المسيح”.. هكذا صرخت سيدة ريفية رأت “جيفارا” مقتولًا وجثته ملقاة في حقل بأحراش بوليفيا.

لم تكن تعرف من هو.. ولا ما قضيته.. ولا لماذا قُتل على هذا النحو البشع؟

كل ما استلفت انتباهها قدر العذاب الإنساني على وجهه وسكينة الروح التي أُزهقت، كأنه مسيح جديد قد صُلب.

فكرة “المسيح المعذب” واحدة من أكثر الأفكار المعاصرة إلهامًا في الضمير الإنساني.

لم يكن “أرنستو تشي جيفارا” قد لقي مصرعه عندما صاغ تلك الفكرة الروائي اليوناني “نيكوس كازانتزاكيس” في رائعته “المسيح يُصلب من جديد”.

الفكرة نفسها تتجلى في العذاب الفلسطيني، الذي يبدو بلا نهاية ـ “مسيح وراء مسيح وراء مسيح”، كما أنشد شاعر العامية المصري عبدالرحمن الأبنودي.

بعد خمسين سنة من اغتيال “جيفارا” وقف الرئيس البوليفي الأسبق “إيفو موراليس” بقرية “فيلاجراندي”، التي اغتيل فيها الثائر الأرجنتيني، ليوجه اتهامًا مباشرًا للاستخبارات الأمريكية بأنها “اضطهدته وعذبته وقتلته بموافقة الرئيس البوليفي رينى بار منتوس”.

مَن “ريني بار منتوس”؟! لا شيء، فهو جملة عابرة في التاريخ لا يذكر اسمه إلا مقرونًا بجريمة الاغتيال.

الضحية عاشت والقاتل محض نكرة. بعد خمسين سنة قال التاريخ كلمة أخرى في بوليفيا، لكنه لن ينتظر هنا في منطقتنا العربية فعواقب حرب الإبادة والاجتثاث سوف تفضي باليقين إلى زلازل سياسية لا حدود لها تزيح نظمًا وتنهي سياسات، إذا لم يكن اليوم ففي المدى المنظور، كما حدث بالضبط بعد نكبة (1948).

من مفارقات التاريخ أنّ “جيفارا” زار غزّة عندما كانت تحت الإدارة المصرية وأبدى تضامنًا كاملًا مع الحق الفلسطيني المهدر.

ربما مر بالقرب من مخيم خان يونس حيث ولد يحيى السنوار عام 1962.

كانت القاهرة في ذلك الوقت منارة إلهام لحركات التحرير بالعالم الثالث.

عندما كان مع رفيقيه “فيدل” و”رائول كاسترو” فوق جبال “سيرا ماستيرا” يتأهبون لاقتحام العاصمة الكوبية “هافانا” بدا صدى صوت جمال عبدالناصر ملهمًا وهو يعلن المقاومة: “سنقاتل” أثناء حرب السويس (1956).

كان النموذج المصري موحيًا بالأمل، فقد تمكنت دولة من العالم الثالث، استقلت بالكاد، من أن تؤمم “قناة السويس” وأن تتحدى الإرادات الغربية، وأن تصمد في المواجهات العسكرية، وأن تخرج المستعمرة القديمة إلى العالم لاعبًا رئيسيًا على مسارحه تمتلك قرارها ومصيرها.

اللافت في قصة “جيفارا” أنّ صورته في التاريخ فاقت حجم دوره.

لماذا عاش “تشى جيفارا” طويلًا في الذاكرة الإنسانية؟ ببساطة لأنه لخص في شخصه وتجربته “قوة النموذج الإنساني”، دعته فكرة الثورة إلى الحرب في كوبا، وعندما انتصرت غادر السلطة سريعًا حتى استقرت به مقاديره في أحراش بوليفيا، التي لقي مصرعه فيها مصلوبًا.

بعد اغتياله بسنوات طويلة نقل رفاته إلى مدينة “سانتاكلارا” في كوبا، مهد ثورتها، حيث دفن تحت رعاية زعيمها الراحل “فيدل كاسترو” باحتفال يليق باسمه.

قبل ذلك انتدب شبان من القارة أنفسهم لتعقب كل من ساهم في اغتياله.

لا أحد يعرف إلى أي حد جرى التنكيل بجثة “السنوار”، لكنها سوف تعود يومًا إلى تراب غزّة رمزًا لكرامتها وعزتها وإصرار أهلها على التشبث بالأرض رغم حروب الإبادة والتجويع.

سوف يبقى في ذاكرة التاريخ نموذجًا لمعنى أن تكون مقاومًا من أجل قضية عادلة.

بصياغة شيخ الأزهر الجليل أحمد الطيب: “المقاومة والدفاع عن الوطن والأرض والقضية والموت في سبيلها شرف لا يضاهيه شرف”.

إنه شرف لا يعرفه الذين يشمتون في دماء الشهداء.

————————————————————————————–


من كربلاء إلى غزة.. صناعة الأيقونة!

بقلم: عمرو حسين

المشهد الأول: أكتوبر عام ٦٨٠ للميلاد – صحراء كربلاء بأرض العراق.

يلتف جيش عبيد الله بن زياد، الوالي الأموي على الكوفة، حول جثمان الإمام الحسين بن علي، سبط النبي الكريم، بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وهو لا يزال ممسكا بسيفه، وبعد أن ردد كلماته الشهيرة “إني لم أخرج أشرا، ولا بطرا ولا مفسدا، ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي”.

يتقدم أحد القتلة -من جيش ابن زياد- من جسد الإمام الحسين، ويَحْتَزُّ بسكينٍ رأس الإمام، ثم يطوف به المجرمون محمولا على سن الرمح، في ولايات دولة بني أمية، وصولا إلى عاصمتها في دمشق، إلى أن استقر الرأس الشريف في مدينة عسقلان في فلسطين، ثم نقل إلى مصر في عهد الدولة الفاطمية، ووضع في المقام المسمى باسم الإمام الحسين، والذي لا زال قائما في القاهرة حتى اليوم.

المشهد الثاني: أكتوبر عام ١٩٦٧، – أحراش بوليفيا في أميركا الجنوبية.

يتهافت الصحافيون -من جنسيات مختلفة- على التقاط صور لجثمان شابٍ وسيمٍ مُسجَّى على فراش في مستشفى بوليفي.

كان الجثمان للطبيب والثائر الأرجنتيني إرنستو تشي غيفارا، الذي قتل في التاسع من أكتوبر، بعد معركة دامية مع قوات النظام البوليفي الحاكم، والمدعوم من قبل واشنطن، والذي كان غيفارا يسعى لإسقاطه، كما فعل مع رفيق دربه فيديل كاسترو في كوبا، قبلها بنحو ٨ سنوات.

كان استعراض جثمان الثائر الأممي الذي أُسِرَ في المعركة وأعدم على يد الجيش البوليفي متعمدا؛ من قِبَل النظام الحاكم في بوليفيا، لإثبات مقتل الثائر الأسطوري وبشكل لا يخلو من التشفي.

المشهد الثالث: ١٧ أكتوبر ٢٠٢٤، – قطاع غزة:

في أوج معركة حامية بين جيش الاحتلال الصهيوني، وعدد من مسلحي المقاومة الفلسطينية في القطاع؛ يتحصن المسلحون في أحد البيوت في منطقة رفح، ويطلقون النار بكثافة صوب جنود الاحتلال.

يوجه الجنود مدفع دبابة نحو المنزل المحاصر ويقصفونه؛ ثم يطلقون طائرة مسيرة نحوه لاستطلاع مصير المسلحين.

ترصد كاميرا المسيرة شيخا جاوز الستين من عمره؛ يرتدي الكوفية الفلسطينية، ويخفي بها ملامح وجهه، وقد أصيب إصابة بالغة في يديه.

يلتفت الشيخ ويدرك وجود المسيرة؛ فيمسك بذراعه المصابة بعصا، ويلقيها تجاه الكاميرا، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

يدخل الجنود إلى المنزل بعد تأكدهم من مقتل المسلح، وهنا تكون المفاجأة.. الشيخ الذي أمطرهم بالرصاص، هو ذاته المطلوب الأول لدولتهم، كونه مهندس معركة السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، القائد القسامي السنوار.

يلتقط الجنود الصور للشيخ الشهيد، والدماء تغطي زيه العسكري، ويده قابضة على سلاحه، ظنا منهم أن حكومتهم تستطيع تسويق هذه الصورة التي قادتها إليهم الصدفة البحتة كإنجاز.

في كافة الأمثلة -المشار إليها أعلاه- كان غرض الغزاة والطغاة من التمثيل بجسد مناضل مقاوم؛ هو أن يجعلوا منه أمثولة ترهب الأخرين، وتجعلهم يخشون تقليده، والسير على دربه؛ كي لا يلقوا مصيره.

لكن هذا النهج انقلب على أصحابه، وأتى بنتيجة عكسية؛ إذ تحول الثائر في كل مرة، إلى أيقونة ومثال يتبعه المؤمنون به وبنهجه.

فرأس الحسين الطاهر الذي احتزه قتلته؛ صار مصدر إلهام لكافة الثورات التي اندلعت ضد حكم بني أمية الوراثي رافعة شعار “يا لثارات الحسين” بداية بثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد؛ مرورا بثورة المختار الثقفي ونهاية بالثورة العباسية التي أنهت حكم الأمويين.

ووجه غيفارا وهو مسجى على رخامة المشفى في بوليفيا- صار أيقونة للثورة، رسمها الشباب في كافة بلاد ما يعرف بالعالم الثالث على قمصانهم.

أما صورة السنوار الأخيرة، فسرعان ما تحولت إلى أيقونة هي الأخرى في خلال ساعات -لا أكثر- من استشهاده؛ حيث شهدت مواقع التواصل الاجتماعي تفاعلا واسعا مع تلك الصورة، وامتلأت بأعمال فنية تستلهم تلك الأيقونة.

كما انتشر موقع فيديو مصور، من قطاع غزة لأطفال القطاع في مخيمات النزوح، وهم يقلدون مشهد السنوار الأخير، ويستخدمون العصا سلاحا على طريقته.

إن الغزاة والطغاة بغرورهم وصلفهم وتصورهم أنهم ينهون المقاومة بقتلهم أحد رموزها؛ إنما يحولون هذه الرموز -في واقع الأمر- إلى مادة إلهام للأجيال القادمة، التي تكمل مسيرتها نحو غايتها: الحرية والعدالة.

————————————————————————————–


المشهد الأخير للشهيد يحيى السنوار

السنوار

بقلم: زاهر المحروقي، نقلا عن موقع جريدة عمان

سيدي يكفيك فخرا أنك مَحَوْتَ بطوفانك المبارك؛ رُكاما من اليأس والقنوط؛ كاد يُغرق الأمة بأسرها.. بعد أن رأينا أشباه الرجال يُهرعون من كل حدبٍ وصوبٍ للتطبيع مع العدو.. حتى ظننا أن القضية صارت في ذمة التاريخ.. فإذا بك تُعيدها إلى بؤرةِ اهتمام العالم بأسره.. ليس هذا فحسب؛ بل إن طوفانَ الأقصى أسمع غير مُسمع، حتى خرج الشباب في جامعات العالم ينتصرون للقضية، كما لم يحدث من قبل، في عمر الصراع الممتد منذ أكثر من ثماني عقود.

أبا إبراهيم الحبيب علّ كلماتي تصلُك في العلياء.. علّها تزيل عن القلب ألم الفقد.. علّها تغسلُ عن الروح ذلك الحزن.. علّها تكون اعتذارا عن الخذلان والتقصير في حق أهلنا الأبطال الصامدين في كل بقعة من بقاع الوطن الأبي.. سيدي -رضي الله عنك وأرضاك-.. طبت حيا وشهيدا ورمزا لأمتك التي طوّق جميلك عنقها؛ بل أعناقنا جميعا.. لأننا سنفخرُ يوما ما، أننا عشنا زمنك وتابعنا جهادك ورُمْنَا نصرك.. وأحببناك بصدقٍ وإيمانٍ وبصيرةٍ كما لم نحب أحدا من أبطالنا.

————————————————————————————–


رسالة إلى الشهيد.. قائد طوفان الأقصى

بقلم: ماهر الشيال

أخي الحبيب أبا إبراهيم..

تحية طيبة وبعد..

أرفعُ إليكَ أسمى آياتِ الاحترامِ والتقديرِ والمودةِ العميقةِ.. فشخصكم الكريم يستحقُ من كلِّ حرٍّ شريفٍ أن يُنْزِلَه أعلى المنازلَ، من نفسه وقلبه وروحه.

أخانا الحبيب الذي تجسّدت فيه كل معاني البطولة؛ ليعيدَ لنا الأملَ في أمتنا العربية، ورجالها الأفذاذ الذين سطّروا بدمائِهم الذكية عبر التاريخ، أعظمَ ملاحمَ البطولةِ والفداء.. ليتحققَ بك قولُ رسولنا الأعظم، عن منبتك الكريم “…وإن أفضلَ جهادكم الرباطُ، وإن أفضلَ رباطكم عسقلان”. أرض الجهاد وموطن العصبة القابضة على جمر البطولة والاستشهاد.

أبا إبراهيم أيها المُرْتقِي إلى العلياء، بهيا ساطعا في سماء فلسطينَ الأبية.. علّك تعلم حالنا وما آلت إليه أمتنا من هوان وذلة بأكثر مما نعلم.. لكنك -الآن- تعلم يقينا أن دماءَك الغالية التي أريقت؛ ستنبت لهذه الأمة؛ غدا تسترجعُ فيه ذاكرتَها كاملةً غيرَ منقوصةٍ، وستكون حاضرا بروحك وعزمك الذي لا يلين، في إهاب ملايين من أبنائك وأحفادك، سيكونون على قلب رجل واحد.. هو لا شك أنت.

أيها الذي استرخصَ دماءَه في سبيل الله.. مجاهدا أبيا لم يعرف العدو له نظيرا، بأسا وقوة ورباطة جأش.. أيها السيدُ المترفعُ عن كل  المغانم والدنايا.. أيها الطالعُ من قلب المخيم الذي صهرك معاناةً وصلابةً وتحديا.. أيها الصابرُ المحتسبُ في محبسك لعقدين من الزمان وأكثر.. أيها الهيِّن الليِّن الخشنُ المعيشةَ، المتباسطُ في أبهى صورةٍ لواحدٍ منا يكدحُ في عمله المُضْنِي ليطعمَ صغاره ويعولَ أهله.. أيها المحبُ لأبناءِ وطنه على أكمل ما تكون صورة المحب. أيها المبادرُ حتى لا يظن ظان أن خيرا أتيحَ لك فلم تدركه.. أيها الذي قدّر الله له أن يفوحَ عطرُه لحظة ارتقائه؛ ليملأَ أرجاء الدنيا؛ فتنطق الألسنة بشجاعتك وصمودك في كل البلاد.. حتى أعداؤك -وهم أحقر وأحط خلق الله-، سُخّروا مُرغمينَ لتسجيل تلك اللحظة، لتكون أمثولة للأجيال من بعدك إلى ما شاء الله.. أيها السيدُ المسوّدُ الذي أبى ربُّ العالمين له إلا أن يكونَ فاروقا لهذا الزمن، لا يحبُكَ إلا مؤمنٌ ولا يبغضُك إلا شر خلق الله.. أيها القائدُ الباقي في أمتك إلى أبد الآبدين- لا كلام في لغتنا الحبيبة -وما أغناها- يوفيك ذرةً من حقك في أعناقنا.. أحيتنا دماك من مواتنا المقيم.. أهدتنا رؤيةً ناصعةً تنفتحُ على الحقيقة الكاملة لهذا الصراع بين الحق المبين وأضل حثالات الأمم على مر العصور.. فلم يعدْ للأعمى والمتعامي حجة؛ ينكرون بها هذا النور في بهائه وقوته.

أيها البطلُ الذي أضافَ إلى البطولة معانٍ جديدة؛ بل وسجل في صفحاتها فتوحا لم يسبقه إليها أحد، شهد بها العدو في فترة الاعتقال الطويلة، وفي ساحات الوغى يوم أصليتهم نارا وأدخلتهم السعير؛ فَبِتَ لهم كابوسا يقض مضاجعهم، لترى فريقا منهم يغادرون أرضك بلا رجعةٍ، وفريقا آخر لا يغادرُ الملاجئ خوفا وهلعا، وفريقا ثالثا يَعْمُر المشافي في قمة اليأس والاكتئاب، وهو إلى الجنون أقرب.

سيدي يكفيك فخرا أنك مَحَوْتَ بطوفانك المبارك؛ رُكاما من اليأس والقنوط؛ كاد يُغرق الأمة بأسرها.. بعد أن رأينا أشباه الرجال يُهرعون من كل حدبٍ وصوبٍ للتطبيع مع العدو.. حتى ظننا أن القضية صارت في ذمة التاريخ.. فإذا بك تُعيدها إلى بؤرةِ اهتمام العالم بأسره.. ليس هذا فحسب؛ بل إن طوفانَ الأقصى أسمع غير مُسمع، حتى خرج الشباب في جامعات العالم ينتصرون للقضية، كما لم يحدث من قبل، في عمر الصراع الممتد منذ أكثر من ثماني عقود.

أبا إبراهيم الحبيب علّ كلماتي تصلُك في العلياء.. علّها تزيل عن القلب ألم الفقد.. علّها تغسلُ عن الروح ذلك الحزن.. علّها تكون اعتذارا عن الخذلان والتقصير في حق أهلنا الأبطال الصامدين في كل بقعة من بقاع الوطن الأبي.. سيدي -رضي الله عنك وأرضاك-.. طبت حيا وشهيدا ورمزا لأمتك التي طوّق جميلك عنقها؛ بل أعناقنا جميعا.. لأننا سنفخرُ يوما ما، أننا عشنا زمنك وتابعنا جهادك ورُمْنَا نصرك.. وأحببناك بصدقٍ وإيمانٍ وبصيرةٍ كما لم نحب أحدا من أبطالنا.

————————————————————————————–


رجال المقاومة.. ورفض ثقافة “فضة المعدَّاوي”!

بقلم: عمرو حسين

في أحد مشاهد المسلسل الدرامي المميز “الراية البيضا” الذي صاغه الراحل أسامة أنور عكاشة كاتبا وأخرجه المخضرم محمد فاضل، تقول التاجرة فضة المعدَّاوي (الراحلة سناء جميل) التي يقدمها المسلسل كرمز للهمجية وغرور القوة، أن مشكلتها مع عدوها اللدود الدكتور مفيد أبو الغار (الراحل جميل راتب) هو أن الأخير لا يُفلح معه التهديد ولا تغريه الأموال.

بعبارة أخرى.. كانت فضة تؤكد أنه لا سبيل لها لقهر خصم مثل أبو الغار، فهو على عكس خصومها السابقين؛ لا يخشى تهديداتها ولا يسيل لعابه أمام عروضها المالية السخية الهادفة لرشوته، وجعله يتخلى عن قضيته.

على أرض الواقع.. يبدو الوصف الذي قدمته فضة المعدَّاوي والتي لا تختلف كثيرا – وفقا لمنطق المسلسل- عن الكيان الصهيوني، من حيث الصلف والغرور النابع من القوة المادية، والشعور بالحصانة التامة التي يوفرها له الدعم الغربي، مهما بلغ حجم جرائمه – يبدو الوصف الذي قدمته لعدوها منطبقا تماما على ثلاثة من عظماء هذه الأمة، شاءت الأقدار أن ينتقل كل منهم إلى جوار ربه، وهو يخوض معركته الاخيرة.

الأول هو الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي رحل عن عالمنا في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠، وهو يدير بنجاح ما عُرف بحرب الاستنزاف، ضد العدو الصهيوني، ويرفض كافة العروض الأمريكية السخية لحل منفرد مع الكيان الصهيوني؛ حتى وإن تضمنت تلك العروض استعادة سيناء.

جمال عبد الناصر

تمسك “أبو خالد” -كما كنّته الجماهير العربية- بضرورة أن يكون الحل عربيا شاملا، وأن يتضمن انسحابا صهيونيا من كافة الأراضي العربية المحتلة في صيف عام ١٩٦٧.

وهو الموقف الذي لخّصه في جملة أثيرة، وهي أن الصراع مع العدو هو صراع وجود لا صراع حدود.

أما الثاني فهو سيد المقاومة اللبنانية الشهيد حسن نصر الله، الذي شاءت الأقدار أن ينال الشهادة في عملية اغتيال صهيونية في يوم ذكرى رحيل الزعيم المصري (٢٨ سبتمبر ٢٠٢٤).

كان “أبو هادي” كما يعرفه جمهور المقاومة في كل من لبنان وفلسطين، والذي أهدى الأمة انتصارين على العدو الصهيوني، في كل من مايو ٢٠٠٠، وأغسطس ٢٠٠٦، – يدير ساعة اغتياله إحدى أهم معاركه على الإطلاق.

كان لبنان قد تحوّل بداية من سبتمبر ٢٠٢٤، من جبهة مساندة لقطاع غزة المحاصر، إلى جبهة قتال ثانية، ضمن معركة طوفان الأقصى التي انطلقت في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣.

وكما في المثال السابق.. لم تغر السيد الشهيد عروض الوساطة لوقف إطلاق النار، على جبهة لبنان فقط، دون وقف المجازر في غزة، كما لم يعبأ السيد كثيرا بالتهديدات الصهيونية، باستهداف قيادات حزبه ومقر حزبه (الضاحية الجنوبية في مدينة بيروت) ولا باستهدافه هو شخصيا.

ظل السيد على موقفه المساند لغزة، الذي آمن أنه موقف يمليه الواجب القومي والديني والإنساني؛ حتى لقي ربه شهيدا، وهو لا يزال ثابتا على موقفه.

حسن نصر الله

أما الثالث فهو القائد القسامي السنوار، الذي تمسّك بمبدأ المقاومة وببندقيتها، رغم كافة محاولات إقناعه بالتخلي عنها، من خلال منح مالية تقدم إلى قطاع غزة المحاصر، الذي كان ينتمي إليه.

وهو ما تبدّى في خطاب ألقاه السنوار في تأبين أحد شهداء المقاومة عام ٢٠١٨، حين أكد أن سماح العدو بدخول الوقود والمساعدات المالية إلى القطاع المحاصر؛ لا يعني بالضرورة موافقة أهل القطاع على وقف مقاومتهم للاحتلال.

وأضاف السنوار: ماذا ظن العدو حينما سمح بإدخال الدولار والسولار؟ هل ظنوا أننا نبيع الدم؟!

لم يخش السنوار – في الوقت ذاته – من استهداف العدو له؛ بل اعتبر في مؤتمر صحفي عقده عام ٢٠٢١، في قطاع غزة أن أكبر هدية يمكن أن يهديها إليه العدو؛ هو أن يغتاله! لأنه -ببساطة- يفضل أن يموت شهيدا؛على أن يموت على فراشه.

ولعله ليس من قبيل المبالغة، القول أن السنوار سعى سعيا لما وصفه بالـ”هدية”، فهجر الأنفاق التي صممت لحماية المقاومين وحمل السلاح، وقاتل مع تلاميذه من رجال القسام، إلى أن نال الشهادة في اشتباك والتحام، مع قوات العدو يوم ١٧ أكتوبر ٢٠٢٤، متمثلا في ذلك مشهد استشهاد استاذه وقدوته الشيخ عز الدين القسام في أحراش “يعبد” بالضفة الغربية في معركة حامية الوطيس في نوفمبر من عام ١٩٣٥.

إن مقاومة تقدم قادتها شهداء، ويقودها من لا يغريهم “الذهب” ولا يرهبهم “السيف” هي مقاومة عصية على الكسر.

————————————————————————————–


كيفَ رأيتُ الصورةَ؟

بقلم: ماهر الشيال

وحيدًا في انتظارِ الصعودِ/ وحيدًا يُحْكِمُ القيدَ فوقَ الألمْ/ النزيفُ النَّدِيُّ لا يُزْعِجُه/ ما يَشْغلُه الآنَ أكبرْ/ مِن مُسَاوَمَةِ  الوَهَنْ/ أيُّ فكرةٍ ساورتْه وقتها/ تأكدتْ أنَّه في صفاءِ ذهنِه/ وفي ثباتِه/ لم يُباغِته الوجلْ/ في لحظةِ الحقيقةِ الكاملةْ/ يَمْثُلُ الصدقُ راسخًا/ وترحلُ غياماتُ الترددِ/ وتلمعُ في الأعينِ الراضيةِ/ بروقٌ تضمّدُ جُرحًا يتيه دَمًا.

قال الردى: هناكَ حيثُ يقفُ رأيتُني أرتعدْ

وقفتُ واجمًا

كيفَ أناورُه؟

دونَ أنْ تلتقِي عينانا

فَيَقْتُلُنِي منه التمهلُ

ويَصْرَعُه مِنّي الأملْ.

قالتْ النجاةُ: السيدُ لا يَرتَجِيْنِي اليومَ

سيأمرُ لي باستراحةٍ

ويرسلُ في إِثرِ الفجيعةِ

لا يهنُ في ابتغاءِ القومِ

ولا تشغلُه الحقيقةُ عن خيالٍ رهيفٍ

يعاودُه مثلَ الوسنْ.

قالتْ البطولةُ: حتَّى لحظتنا تِلكَ يا سيدي

لم نفترقْ

كنا لصيقينِ.. قريبي الصلَةِ بالمخاطرةِ الكاملة

نضحكُ حينَ يخرُّ الهولُ صريعًا

وحين يفيقُ

يغفو على كتفينا

مُخفيًا وجهَه في السكونِ الحذرْ

كنت أعرفُ نفسي

بين حَدّي الترقبِ أمعنُ

باحثةً عنكَ بينَ الصفوفِ

في المسافةِ بينَ القذيفةِ

والشظيةِ الغادرةْ

كنتَ تَبْسُمُ حينَ ترتسمُ الدهشةُ فوقَ ملامِحِي

وحينَ يحييكَ الرفاقُ

تحيةَ الصباحِ

بعيونٍ يَحْذَرُها النومُ

وساعةَ يرتقي سيدٌ

فتسري منه الدماءُ إلى الأفئدةْ.

قال التوجسُ: ما كان لي أنْ أشهدَ اليومَ

خاصمني “السنوارُ” منذُ وعى

ازدراني على نحوٍ عميقٍ

خالفني.. وقطعَ الطريقَ عليَّ

وألزمني البعدَ

كما أبعدَ منه الوجلْ

باقتفاءِ الخطرْ

لكنني نزعتُ عن وجهي ملامحَه

وأنكرتُ كلَّ التفاصيلِ

وتابعتُه في توهجِه الأخيرِ

وانطفأتُ

كما لم أَرَنِي

وأسقطتُ الخوفَ من مَقَاتِلي

وامتثلتُ للنظرةِ القاهرةْ.

قالت اللحظةُ الأخيرةُ: احتشدتُ به

كانتْ أنفاسُه رحابةً لا تضيقْ

كان ارتقاءً يليقْ

احتفاءً بالمشتهى من الانعتاقِ

ومن أوجه السابقينَ

ومن بُشرياتٍ تُجَسَّدُ بالأنينْ

“لَبَّيكِ يا فلسطينْ”

لا يغادِرُك الذي “يحيى” أبدْ

في خلودِ المَشْهَدِ

في بقائِه الأخلدْ

وفي مَوتَتِه الفَاتِنة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock