رياضة

أسطورة الاهلي مختار التتش.. تحدي الجميع من أجل فلسطين وانتصر

لقد ذهبنا إلى فلسطين في مهمة وطنية، وهو موقف من العار الاعتذار عنه، وبناء عليه فإنه لا يشرفني الانتماء لاتحاد كرة يترأسه أمثالك.. كانت هذه الكلمات هي نص البرقية التي أرسلها كابتن مصر والنادي الاهلي، الكابتن محمود مختار رفاعي الشهير بمختار التتش، لرئيس الاتحاد المصري لكرة القدم محمد حيدر باشا.

لهذه البرقية قصة مثيرة تعود إلى عام 1943، حين تلقى النادي الأهلي دعوة للعب مباراتين خلال أسبوع في فلسطين دعما للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية، وتحركت سلطات الاحتلال البريطاني في مصر لمنع تلك الزيارة، وأبلغت الملك بعدم ترحيبها بسفر الأهلي إلى فلسطين، وأبلغ الملك حيدر باشا بضرورة التحرك لمنع الفريق من مغادرة القاهرة بأي وسيلة كانت؛ وعلى الفور امتثل الباشا للأوامر، واستدعى التتش إلى مقر الاتحاد، وطلب منه الامتناع عن السفر إلى فلسطين؛ بحجة أن الأوضاع هناك لا تسمح بذلك؛ نظرا لاشتعال الثورة الفلسطينية في كافة أنحاء فلسطين ضد الاحتلال البريطاني، ناهيك عن الحرب التي يخوضها الشعب الأبي ضد العصابات الصهيونية؛ فرد عليه التتش بأن ما ذكره يؤكد أن تلبية الدعوة أصبح أمرا واجبا يعتبر التخلف عنه بمثابة خذلان لأخوة وأشقاء في العروبة والدين؛ وأنه شخصيا لا يمكن أن يقبل على نفسه ذلك العار الأبدي.

الثورة الفلسطينية

ولما لم تنطل الحيلة الخبيثة على التتش، أظهر الباشا الوجه الآخر وتوعده بأن الدولة ستحول دون سفر الفريق بكل الوسائل؛ فإذا بالكابتن مختار يخبر الباشا أنه ولاعبي الأهلي سيلبون دعوة الشعب الفلسطيني، ولو اضطروا للذهاب إلى هناك سيرا على الأقدام؛ فيلقي الباشا بورقته الأخيرة قائلا: في هذه الحالة ستتعرضون جميعا للإيقاف، وربما الشطب، فينتفض التتش واقفا منهيا اللقاء بقوله: سنسافر يا باشا مهما كلفنا الأمر.

على إثر ذلك سحبت جوازات السفر الخاصة باللاعبين لمنعهم من السفر، لكن فؤاد سراج الدين وزير الداخلية آنذاك استخرج للفريق جوازات سفر جديدة، وبموافقة دولة رئيس الوزراء سافر الفريق تحت اسم فريق شباب القاهرة.. وركب الفريق القطار سرا إلى بورسعيد، ومنها إلى بورفؤاد، فالعريش ورفح، وعبر غزة دخل الفريق الأراضي الفلسطينية، وكان في استقبالهم قيادات الشعب الفلسطيني، ورجال الثورة الفلسطينية، وبدلا من المباراتين لعب الفريق خمس مباريات، وطالت فترة الإقامة بين الأهل في فلسطين لنحو ثلاثة وعشرين يوما.

كانت المباريات بمثابة تظاهرات وطنية حضرها الآلاف، أججت الشعور الوطني والقومي لدي جموع الشعب العربي الصابر المجاهد، وأذكت نار المقاومة والصمود، وشدت من أزر المقاومين والمدافعين عن الأرض والعرض ضد أعتى قوى الشر العالمية. كان لهذه الرحلة الخالدة أبلغ الأثر في إغضاب المحتل في القاهرة، فيصدر الأمر بضرورة إنزال العقاب بهؤلاء اللاعبين جزاء ما اقترفوه.. يقرر الاتحاد تجميد النشاط الرياضي بالنادي الأهلي، ومنع جميع لاعبيه عن اللعب في أي ناد آخر.

فؤاد سراج الدين
فؤاد سراج الدين

سرى هذا القرار الظالم لنحو عشرة أشهر، وعقب حفل أحيته السيدة أم كلثوم بالنادي الأهلي خرجت جماهير النادي في مظاهرات كبيرة تهتف بسقوط الاحتلال وعملائه؛ بل وبسقوط الملك، مطالبين بعودة النشاط لنادي الوطنية المصرية، واستشعرت الحكومة المصرية الخطر؛ وتدخل النحاس باشا لدى الملك لإلغاء قرار التجميد فوافق، لكن حيدر باشا اشترط أن يذهب لاعبو الأهلي للاعتذار رسميا في اتحاد الكرة عن السفر إلى فلسطين ومخالفة قرار الاتحاد، واضطر اللاعبون تحت ضغط من محمد حسنين باشا رئيس النادي الأهلي إلى الاعتذار، أما مختار التتش، فقد أرسل إلى حيدر باشا تلك البرقية، فصدر قرار فوري بشطبه من سجلات الاتحاد.. ولكن قرار شطب التتش ذهب إلى سلة المهملات تحت ضغط الجماهير الغاضبة، واضطرت السلطات إلى إلغائه. هذا هو محمود مختار محمد رفاعي كابتن النادي الأهلي ومنتخب مصر، ابن حي السيدة زينب العريق، الذي ظهرت موهبته الأسطورية مع فريق مدرسة محمد علي الابتدائية، رغم صغر سنه وحجمه، وفي مدرسة السعيدية الثانوية التي كان نجم فريقها الأول طوال سنوات دراسته بها، قبل أن ينال البكالوريا ويلتحق بكلية الحقوق؛ لينال شهادتها العليا.. وكان الأهلي قد اكتشف موهبة التتش عام 1922، فخاض أولى مبارياته أمام فريق الطيران الإنجليزي في الكأس السلطانية، وفاز الأهلي بهدفين مقابل هدف، وأحرز التتش هدف الفوز.. وكان المندوب السامي البريطاني مستر “لويد” حاضرا لتلك المباراة، وأعجب بمهارة مختار، وهو الذي أطلق عليه لقب “التتش” وهي تسمية تطلق على لاعبي الأكروبات الخطرة الذين يتميزون بالمهارة والسرعة مع صغر الحجم، في السيرك البريطاني.

في غضون عامين يصبح مختار أحد أهم نجوم المنتخب المصري، ويشارك مع الفريق في الدورة الأوليمبية بباريس عام1924، وكان توقيت الدورة يوافق موعد امتحانات شهادة الكفاءة التي كان على مختار اجتيازها، ويصر والد مختار الدكتور محمد رفاعي حكيم باشي مستشفى الإسكندرية العام، على عدم سفره خوفا على مستقبله، ويصل الأمر لدولة رئيس وزراء مصر آنذاك الزعيم سعد زغلول، فيصدر أوامره بسفر التتش مع الفريق على أن يتم إرسال أوراق الامتحان إلى المفوضية المصرية لكى يؤدى الامتحان هناك.

سعد زغلول وقيادات حزب الوفد
سعد زغلول

كما شارك التتش في دورة الألعاب الأوليمبية التاسعة بأمستردام عام 1928، وكانت من أروع مبارياته التي لعبها في هذه الدورة مباراة مصر والبرتغال، حيث فازت بها مصر بهدفين للتتش مقابل هدف، ويتمكن الفريق المصري من الوصول للمربع الذهبي، ولكنه يكتفي بالمركز الرابع، وكانت بطولات كرة القدم بالدورات الأوليمبية بمثابة بطولات كأس عالم لكرة القدم، قبل أن تنطلق بطولات كأس العالم عام 1930 بالأوروجواي، وقد أشادت به صحف أوروبا وأجمعت على أنه أحسن ساعد أيسر في العالم، وتم اختياره ضمن منتخب العالم الذي لعب بعد الدورة مع منتخب أوروبا.

كما شارك مختار في دورة الألعاب الأوليمبية الحادية عشرة ببرلين عام 1936، واختير ضمن منتخب العالم للدورة الثانية على التوالي.

وفي أوج عطائه، يقرر التتش اعتزال كرة القدم؛ فتقوم الدنيا ولا تقعد، ويحاول الجميع إثناءه عن هذا القرار الذي أصاب جماهير الكرة المصرية بالحزن الشديد، حتى إن بعضهم ذهب إلى السيدة أم كلثوم، وكانت ذات مكانة كبيرة لدى التتش، طالبين منها إقناعه بالعدول عن قراره؛ وقد حاولت إثناءه فعلا؛ لكنه أقنعها في النهاية بوجهة نظره، وهي أنه من الأفضل أن يعتزل اللاعب وهو في القمة بدلا من يأتي يوم تطالبه فيه الجماهير بالاعتزال، وهو موقف لا يمكن أن يتصوره لنفسه.

بعد اعتزال التتش مارس لعبة الهوكي كهواية، كما أسهم في تأسيس الاتحاد المصري للبلياردو، وبدأ نشاط الاتحاد عام 1944، ولم تكن اللعبة تمارس بالنادي في ذلك الوقت، بعد أن بيعت طاولات البلياردو في الثلاثينات، ومع ذلك تأسس الاتحاد بفضل جهوده هو وحسين حجازي، والسيد نصير.. ثم أشرف التتش على كرة القدم بالنادي الأهلي، وتولى منصب سكرتير عام اللجنة الأوليمبية المصرية من عام 1956م وحتى عام 1959.

وفي عام 1965 كرمه الرئيس جمال عبد الناصر، ومنحه وسام الرياضة من الطبقة الأولى.. وفي صباح الحادي والعشرين من فبراير عام 1965 تفيض روح مختار التتش إلى بارئها، بعد حياة حافلة بالانتصارات والبطولات والمواقف الوطنية والقومية، ويطلق اسمه على ملعب النادي الأهلي تخليدا لذكراه العطرة.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock