بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
عن موقع عمان عروبة 22
على مدى عام كامل وظفت واشنطن النظام الرسمي العربي في لعبة مفاوضات “الباب الدوار” بشكل مباشر وغير مباشر. الهدف الأمريكي الحقيقي الذي كشفت عنه مجريات الحرب هو منح نتنياهو وجيشه كل الوقت وكل الأسلحة لاغتيال قادة المقاومة وإبادة غزّة تحت إيهام أنّ هناك عملية سياسية جارية لإنهاء الحرب.
الهدف نفسه قد يكون هو المضمر في عقل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن وهو يعلن عن جولة مفاوضات جديدة في قطر ضمن المسلسل المعروف “القاهرة – الدوحة وبالعكس”.
كمعظم جولات التفاوض تطلق الإدارة الأمريكية سردية مخادعة إما للزعم بأنّ هذه الجولة تمتلك فرصًا لتحقيق اختراق أو لفرض نموذج للتسوية يتسق مع هذه السردية.
في جبهة غزّة تقول سردية واشنطن إنّ السنوار كان عائقًا أمام التسوية وإنّ اختفاءه يفتح الطريق أمام تسوية تنهي الحرب. وحسب هذه السردية انكسرت “حماس” واختفى قائدها المركزي وهي ضعيفة الآن ومفككة ومفتقده لقيادة ما يجعلها مستعدة أكثر من ذي قبل لعقد اتفاق.
السردية كلها مخادعة، فحسب معلومات غير منشورة ولكن مؤكدة فإنّ السنوار لم يكن في يوم من أيام الحرب عائقًا أمام أي اتفاق، فوقف إطلاق النار اليتيم، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كان بموافقته، وقبول “حماس” لمقترح بايدن في ٣١ مايو/أيار الماضى كان قراره.
أيضًا هل لم يحسب السنوار أخطار الفراغ القيادي الذي سيخلفه استشهاده؟.. الجواب هو بالنفي؛ المعلومات تقول إنّ زعيم “حماس” الراحل فوض قبل استشهاده لجنة قيادية رباعية خارجية لاتخاذ القرار خاصة إذا تعذر الوصول إليه أو استشهد.
في السردية الأمريكية خدعة أخرى تقول إنّ غياب السنوار يعني غياب صاحب القرار على الأرض في تحديد مصير المخطوفين. المعلومات المدققة تؤكد منذ البداية أنّ ملف المخطوفين موضوع منذ وقت مبكر في يد محمد السنوار، وقد اختار سلسلة وراءه لتولي الملف في حال استشهاده. هناك إذن قيادة قادرة على صنع القرار السياسي، وهناك قيادة على الأرض مسؤولة عنهم تستطيع أن تنفذ أي اتفاق خاص بإطلاق سراح البعض أو الكل.
يسرب الأمريكيون خدعة أخرى تزعم أنّ روح الثأر والانتقام ستدفع من تبقوا في قيادة “حماس” إلى فقدان الانضباط التنظيمي وقتل الأسرى الإسرائيليين جميعًا. ومرت أيام عديدة وثبت أنّ الحركة منظمة سياسية بامتياز، ولم يقتل أحد من المخطوفين في لحظة غضب.
آخر تفكيك في بنية السردية التي أطلقت واشنطن هي ادعاء أنّ “حماس” قد تُفشل جولة المفاوضات الجديدة، إما برفض التفاعل مع الوسطاء أو اتخاذ مواقف متشددة لإثبات أنهم لم ينقلبوا على نهج قائدهم.
المعلومات كلها توكد أنّ “حماس” كطرف اتخذ مقعده على الطاولة وهي منخرطة فعلًا في النقاش حول اتفاق ينهي حرب الإبادة على شعبها. الأهم هو أنّ الحركة أبدت مرونة كبيرة فطبقًا لمعلومات موثقة تنازلت “حماس” عن شرطها إقامة حكومة تكنوقراطية تحل محل حكم “حماس” للقطاع في اليوم التالي وقبلت باقتراح “فتح” الاكتفاء بلجنة وزارية محدودة تدير القطاع وتكون تحت سقف السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير.
ما تقدم ضروري لإجلاء أنّ المقاومة ليست في وارد إفشال مفاوضات تنتهي لوقف حرب إبادة شعبها. لكن رغم ذلك تبدو احتمالات الفشل في المفاوضات – الجديدة القديمة – أكبر من احتمالات النجاح.
تبدو كلمات رايان كروكر السفير الأمريكي الأسبق في حديث أخير أدق تعبير عن مصدر الفشل الأمريكي المستمر منذ سنة، إذ يدعو بلاده إلى التخلي عن الأهداف غير الواقعية إذا أرادت نهاية للحرب وعودة للمختطفين. وإلى المسار نفسه اتجه معلقون إسرائيليون معارضون لنتنياهو حذروا من الغرق في فانتازيا أهداف من المفاوضات لا تقل في غرقها في الخيال عن أهداف “النصر المطلق”.
هذا التحذير ليس استشرافًا نظريًا، بل هو أقرب لتحليل صيغ التسوية التي طرحها بلينكن ونتنياهو دون مواربة. تتحدث هذه الصيغ عن اتفاق في غزّة يشترط تسليم كل المخطوفين ونزع سلاح “حماس” وإنهاء حكمها للقطاع وضمان حرية عمل عسكري للجيش الإسرائيلي في القطاع متى وكيف أراد.
في التصور الأمريكي الإسرائيلي للسلام المؤقت في غزّة يتم ربط الانسحاب الإسرائيلي من القطاع وإعادة إعماره بإنهاء أي وجود للمقاومة والقضاء على أي تهديد لقوة الاحتلال لأجيال مقبلة.
لماذا لن تنجح هذه الصيغة؟.. ببساطة لأنها صيغة استسلام صفرية تعطي إسرائيل كل شيء وتحرم المقاومة من كل شيء.
نقيس واقعية ذلك التصور المتطرف مع ما هو مستقر من أنّ التسوية السياسية لأي حرب تعكس نتائج الحرب. في غزّة كما في لبنان سنجد أنّ إسرائيل لم تحقق علي أي من الجبهتين الجنوبية أو الشمالية انتصارًا حاسمًا يعطيها القدرة على أن تفرض هذا الاستسلام على المقاومة.
ضُربت “حماس” بقوة لكنها لم تنهر وما زالت تشن حرب عصابات مكلفة وطورت خلاياها نمطًا حربيًا لا مركزيًا.
بمعيار الشعبية الجماهيرية على كامل الجغرافيا وفي الدياسبورا الفلسطينية تتمتع فصائل المقاومة بالمركز الأول بمسافة كبيرة عن السلطة التي باتت في نظر كثيرين بوليصة تأمين للاحتلال. فمتى حدث في التاريخ أن نجح حل سياسي يستبعد القوة الأولى على المستوى الجماهيري؟.
ينطبق هذا الوصف على مشاريع المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين وغيره للتسوية في لبنان، فرغم الاعتراف بالخلافات الواسعة بين الخريطة السياسية اللبنانية ونظيرتها الفلسطينية إلا أن افتراض أنّ “حزب الله” انتهى تمامًا بعد حسن نصر الله ثبت تعجله ونزقه. قيادة الحزب تماسكت، ومقاتلوه يكبدون العدو خسائر فادحة.. فهل التسوية التي تسعى إليها واشنطن في نزع سلاح “حزب الله” وإزاحته إلى هامش السياسة اللبنانية واختيار رئيس يعادي المقاومة هي تسوية واقعية؟.. أم هي أيضًا مشروع تجديد – لا قدر الله – لحرب أهلية جديدة سيفكر كل عاقل في لبنان مهما كانت خصومته مع الحزب ألا يأخذ لبنان إلى هذه المأساة مجددًا.
إذا كانت إسرائيل عجزت بعد سنة ونيف عن القضاء على المقاومة بالحرب فهل من المنطقي أن تقضي عليها بالمفاوضات؟.