إذا كان الإنسان يعيش على الأرض في حياته الدنيا بـ”الأسباب”؛ إلا أن هذا الإنسان نفسه، يكون في الآخرة موجودا بـ”المُسبب”، سبحانه وتعالى “ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ” [يوسف: 39؛ ص: 65؛ الزمر: 4]. هذا يعني أنه كما تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات، فإن البشر أنفسهم سوف يبُدَّلون على هيئة أخرى، تُناسب الآخرة. كما يعني أيضا أن “ضياء الشمس” و”نور القمر”، يكون كل منهما في الدنيا، كما يرد في قوله سبحانه: “هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ” [يونس: 5]؛ إلا أنه في الآخرة، فقد “َأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا”.
هذا عن “إشراق الأرض”.. فماذا، إذا، عن “شهداء الآخرة”؟
يقول سبحانه وتعالى: “وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ” [الزمر: 69]. وكما يبدو، فهذه الآية الكريمة تنقلنا إلى عالم آخر، إلى عالم “الآخرة”؛ حيث تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات، كما يتأكد عبر قوله عزَّ وجل: “يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ” [إبراهيم: 48]. ففي الحياة الدنيا، يعيش البشر على الأرض نهارًا، بنور الشمس، أي عندما تُشرق الشمس؛ أما في الآخرة، فالأرض هي التي تُشرق “وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ”.. ولكن، ليس بذاتها كما يقول البعض، وإنما تُشرق “بِنُورِ رَبِّهَا”.
وبعد أن تُشرق الأرض “بِنُورِ رَبِّهَا”، وبعد أن “وُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ”، يأتي السياق القرءاني ليوضح “وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ”.. فإذا كان “ٱلنَّبِيِّـۧنَ” معروفون؛ فمن هم “ٱلشُّهَدَآءِ”، إذَا، خاصة أنهم هم “شهداء الآخرة”؟
يقول الله سبحانه: “وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ” [النحل: 84]؛ وأيضًا، يقول تعالى: “وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ…” [النحل: 89]. وهنا، لنا أن نُلاحظ كيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام، سيكون “شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ”؛ أي سيكون “شَهِيدا” على كل شهيد في كل أمة. ورغم أن “الشهيد”، في كل أمة، وتبعا لدلالة المصطلح التي وصلنا إليها من خلال آيات التنزيل الحكيم، هو “من لديه معرفة عينية بالأمة التي هو منها”، أي يمتلك المعرفة “الحضورية” بها، إلا أن الرسول الكريم سيكون “شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ”.
يعني هذا، في ما يعنيه، أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيكون “شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ”، أي شهيدا على كل شهيد من/في كل أمة. ليس فقط، ولكنه سيكون كذلك شهيدا على أمته؛ كما في قوله عزَّ من قائل: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ…” [البقرة: 143]. إذ، إن الأمة المحمدية، وإن كانت في مكانة “شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ”، إلا أن الرسول سيكون على أمته “شَهِيدٗاۗ”.
وهنا، نؤكد على ما توصلنا إليه في مقال سابق، من أن الخطاب القرءاني يختص بـ”ٱلرَّسُولُ”، أي يختص بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام في مقام “الرسالة”. ولعل هذا ما يتبدى بوضوح في قوله عزَّ وجل: “وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ” [الحج: 78].
ولنا أن نتأمل الأحرف الثلاثة المتتالية “وَفِي هَٰذَا لِـ”؛ إذ، إن “وَفِي هَٰذَا” تؤشر إلى السياق القرءاني في الآية الكريمة قبلها “وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ”؛ أما حرف اللام “لِـ”، الذي يُطلق عليه هنا “لام التعليل”، فيأتي سببا لذلك الذي تؤشر إليه “وَفِي هَٰذَا”.. وبالتالي، “يَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ”، والرسول عليه الصلاة والسلام، كـ”شَهِيد”، تكون شهادته في هذه الحال شهادة “معرفية عينية”.
بيد أن الملاحظة التي نود أن نؤكد عليها هنا، بشكل مبدئي حتى يأتي الحديث عنها في بحث قادم، هو الفارق بين الفعل والعمل.
يقول عزَّ وجل: “وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٭ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ” [الزمر: 69-70]. إذ، المُلاحظ، في السياق القرءاني للآية الكريمة، ورود “مَّا عَمِلَتۡ… بِمَا يَفۡعَلُونَ”؛ ومن ثم، يكون التساؤل حول الفارق بين العمل والفعل، ولماذا ورد العمل مع الفعل في الآية الكريمة(؟).
بداية، فإن “وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ” تدل على ما سوف يُجازيها الله سبحانه به، تبعًا لـ”مَّا عَمِلَتۡ”؛ ثم، نأتي إلى العمل والفعل، فـ”العمل”، لسانيًا، يشمل كل من الفعل والقول. ولنا أن نتأمل كيف أن اللسان، من بين جميع الجوارح الإنسانية، له “مهمة القول”، في حين أن البقية من الجوارح لها “مهمة الفعل”؛ العين ترى والأذن تسمع واليد تبطش والرِّجْل تسعى.. إلخ. ولذلك، يقول تبارك وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ٭ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ” [الصف: 2-3].
ملاحظة أخرى، خاصة بالآية الكريمة “وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا”، في قوله سبحانه: “وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ” [الزمر: 69]. إذ، إن الله تعالى يُعطي لنا مثالًا من المشاهد المرئية التي نستطيع إدراكها؛ فلم يكتف سبحانه بالقول: “ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ”، ولكنه تعالى يؤكد لنا: “ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ” [النور: 35].
ولنا أن نتأمل التعبير القرءاني “مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ”؛ إذ إن المشكاة ليست هي المصباح، كما يتوهم البعض، بل هي “فتحة في الجدار يوضع بها المصباح”، حتى يتركز ضوؤه، ولا يتبدد، فيُنير الحجرة التي بها المشكاة. وهي ما يمكن للكثيرين مشاهدتها في المنازل “القديمة” في مناطق الأرياف العربية.
الأهم، أن التعبير القرءاني “مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ”، لا يوضح لنا “نور الله”؛ بل، وهذا هو الجدير بالتأمل والاهتمام، يوضح لنا كيفية الإنارة، أي كيفية إنارة الله تبارك وتعالى لـ”ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ”.. ومن هنا، نُدرك دلالات التعبير القرءاني “وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا”.
وللحديث بقية.