رؤى

قواعد التعاون الاجتماعي في الإسلام.. نحو رؤية جديدة!

في محاولة استكمال البحث حول الأبعاد الاجتماعية لمفهوم التنمية في الرؤية الإسلامية، واعتمادًا على ما وصلنا إليه عند الحديث عن “التعاون الاجتماعي”، ودلالته في هذه الرؤية؛ من أن ضمان “حد الكفاية.. لا حد الكفاف”، هو من أولويات هذا التعاون في الإسلام، من حيث إنه ليس حق الفرد فقط كإنسان أو مخلوق، وإنما هو ـ أساسًا ـ حق إلهي مقدس، وذلك بقوله سبحانه: “أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ٭ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ٭ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ” [الماعون: 1ـ3].

وبالتالي، ومع دعوته إلى كل من التعاون “الفردي”، والتعاون “الأسري”، فقد وجه الإسلام الأفراد إلى التعاون “الجماعي”، وذلك عندما حث الجماعة على مد يد العون والمساعدة جماعيًا إلى الفرد المحتاج عند الاقتضاء.

قواعد التعاون

إذا كان “الأساس” الذي يقوم عليه ضمان “حد الكفاية”، هو ذلك الذي يتمثل في: “حق أفراد الجماعة كافة في موارد مجتمعهم ومصادر الثروة فيه”، بما يعنيه من ضرورة “التعاون الاجتماعي” بين أفراد المجتمع.. لذا، تتفرع عن هذا الأساس قاعدتان، هما بمثابة جناحي التعاون الاجتماعي: إحداهما، يمكن أن نُطلق عليها اصطلاحًا “التأمين الاجتماعي”، والأخرى، يمكن أن نُطلق عليها اصطلاحًا “التكافل الاجتماعي”، ولكل من القاعدتين حدودها ومقتضياتها، في تحديد نوع الحاجات التي يجب أن يُضمن إشباعها، وتعيين الحد “اللائق” من المعيشة ذلك الذي يجب أن يوفره “التعاون الاجتماعي”.

فيما يتصل بهذه الأخيرة، قاعدة “التكافل الاجتماعي”، فهي الإطار الذي يفرض فيه الإسلام على المسلمين، كافة، كفالة بعضهم لبعض، ويجعل من هذه الكفالة فريضة على المسلم يجب عليه أن يؤديها، في حدود ظروفه وإمكاناته، كما يؤدي سائر فرائضه. من هنا، فإن “التكافل الاجتماعي” يتم في إطار المجتمع “الإسلامي”، على مستويات التعاون “الفردي”، والتعاون “الأسري”، والتعاون “الجماعي”.

أما فيما يتصل بالقاعدة الثانية، قاعدة “التأمين الاجتماعي”، فهي الإطار الذي يتوجب على الدولة (كمؤسسة منوبة عن المجتمع ـ الإسلامي ـ في إدارة شئونه)، تجاه أفراد المجتمع. فـ”الدولة”، في نظر الإسلام، راعية اجتماعية بمعنى أنها يجب أن تؤمن لرعاياها مستوى المعيشة “الكافي” و”اللائق”.

وأما الطريقة التي تستند إليها الرؤية الإسلامية، لتمكين الدولة من القيام بضمان هذا المستوى من المعيشة وجماعيته للجماعة كلها، بما تضم من العاجزين.. فهي إيجاد بعض القطاعات العامة التي تتكون من “موارد الملكية العامة”، لكي تكون هذه القطاعات ـ إلى جانب فريضة “الزكاة” ـ ضمانًا للضعفاء والعاجزين من أفراد الجماعة، وحائلًا دون احتكار الأقوياء للثروة كلها، ومنح كل فرد حقه بوصفها “راعية اجتماعية” للمجتمع ككل.

أبلغ دليل على ذلك هو المقطع القرآني من سورة الحشر الذي سبقت الإشارة إليه.. وهو المقطع الذي يحدد وظيفة “الفيء”، ودوره في المجتمع بوصفه “قطاعًا عامًا”. يقول سبحانه وتعالى: “مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” [الحشر: 7].

ففي هذا النص القرآني، نجد “الأساس” الذي تقوم عليه فكرة “الضمان” و”التعاون”، ضمان حد الكفاية والتعاون الاجتماعي.. إنه حق الجماعة كلها في الثروة (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)؛ وتفسيرًا لتشريع “العمومية”، في “الفيء”، بكونه طريقة لضمان هذا الحق، والمنع عن احتكار بعض أفراد الجماعة للثروة.

الإنفاق والزكاة

ولنا -تأكيدًا على ذلك- الفصل الذي تؤكده آيات التنزيل الحكيم بين الإنفاق والزكاة.. يقول الله سبحانه وتعالى: “لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ…” [البقرة: 177].. وهذا الفصل في الآية الكريمة بين الإنفاق “وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ”، والزكاة “وَآتَى الزَّكَاةَ”، بالصلاة “وَأَقَامَ الصَّلَاةَ”، دليل على الاختلاف بين الإنفاق والزكاة؛ كما أن النص على كل من الإنفاق والزكاة في آية واحدة، كل على حدة، قاطع بأن كليهما يختلف عن الآخر، وأنهما “فريضتان مختلفتان”.

وهكذا، يمكننا القول بأن الإسلام قد تعمد، من خلال “التأمين الاجتماعي”، تحقيق إعادة المداخيل بين الناس وتقريب الفوارق “الاجتماعية” بين أفراد المجتمع الإسلامي بالحجة والإقناع، وإلا بالإلزام.. فالمال مال الله وحده والناس مستخلفون فيه، وذلك كما في قوله تعالى: “آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ” [الحديد: 7].. ولذا، فمن حق الأفراد كافة الاستفادة والانتفاع من موارد مجتمعهم ومصادر الثروة فيه كافة؛ وهذا هو “الأساس” الذي يمكن أن ينبني عليه “التعاون الاجتماعي”.

يتبدى ذلك بوضوح عبر دعوة الإسلام إلى التعاون “الفردي” و”الجماعي”، وفرضه فرضًا على الأغنياء لصالح الفقراء؛ وهو التعاون الذي تتسع مظلته دون تفرقة لتنال عموم الناس.. يقول سبحانه: “وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ • لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ” [المعارج: 24 ـ 25].. ويقول تعالى: “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ” [التغابن: 16].

ليس هذا فقط، بل امتدت الدعوة الإسلامية إلى التعاون الجماعي، وذلك عندما حث “الجماعة” على مد يد العون والمساعدة جماعيًا إلى الفرد المحتاج عند الاقتضاء.. يقول سبحانه: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” [المائدة: 2].. ويقول تعالى: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” [التوبة: 71].

وبعد..

فهذه محاولة ـ أولية ـ في بناء مفهوم للتعاون الاجتماعي، مفهوم: يحاول استخلاص أهم المبادئ الإسلامية، فيما يخص ميادين الاجتماع.. ولقد استخدمت لفظ “محاولة”، لما يعنيه من ضرورة أن تليها محاولات، من أجل استكمال بناء مثل هذا المفهوم.

والله.. من وراء القصد.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock