في الحديث السابق، حول “مقدمة في مصطلح ٱلۡأَشۡهَٰدُ”، وصلنا إلى التساؤل التالي: إذا كان مصطلح “ٱلۡأَشۡهَٰدُ” يرد حصرًا في مقام اليوم الآخر؛ فما هي العلاقة بينه وبين “شهداء الآخرة”.. والأهم، ما الفرق بينه وبين مصطلح “شُهُود” الذي يأتي للدلالة على جمع شاهد وجمع شهيد معًا؟
وفي محاولة الإجابة، لنا أن نؤكد من -جديد- على أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” هي “الحضور ومُعاينة الشيء والعلم به”؛ وهي، بذلك، تؤشر إلى “البينة والدليل القاطع، بالحضور والمعاينة والإقرار لأمر ما”. و”ٱلشَّهَٰدَةِ” مصدر مشتق من الجذر “شَ هـِ دَ”، وهو أصل يدل على حضور، ومُشاهدة، وعِلم وإعلام؛ ولفظ “أشهد” من الألفاظ الدالة على “تحقُق الشاهد من الشيء”. وقد سُميت “ٱلشَّهَٰدَةِ” بهذا الاسم لأنها تؤشر إلى “مُشاهدة الشاهد للحدث المشهود”.
ووصلنا أيضا إلى أن مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ” في آيات التنزيل الحكيم، يأتي للدلالة على نوع من إثبات وقوع الحدث؛ بمعنى أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” تتحول إلى واجب تفرضه العدالة، لتحقيق ضرورة اجتماعية نتيجة لوجود “الشاهد” في الحدث، في وقت وظرف محددين، كما تُشير إلى ذلك، كمثال، “آية الدَّين” [البقرة: 282].
فماذا عن “شهود” وأشهاد”؟
شهود الدنيا
قلنا من قبل إن الشاهد يُجمع على شاهدين وشهود، أما الشهيد فيُجمع على شهداء وشهود؛ بما يعني أن ورود مصطلح “شهود” يؤشر إلى جمع شاهد وجمع شهيد معًا، أي ـ وهذا جدير بالتأمل والانتباه ـ يؤشر إلى الحالتين معًا، أي أن يكون من يقوم بالشهادة، هو “شاهد” و”شهيد” في الوقت نفسه.
يأتي ذلك من منظور أن “الشهيد” هو من حضر الواقعة؛ بما يعني أن شهادة الشهيد هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر”، أي “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”؛ أما “الشاهد” فهو “من يأتي بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث.
وبالتالي، يأتي مصطلح “شهود” ليدل على أن هؤلاء الشهود، هم في موضع “الشهادة الحضورية والمعرفية معًا”؛ بما يؤكد أن مصطلح “شهود” في التنزيل الحكيم، هو مصطلح خاص أو له “وضعية خاصة”. وقد ورد هذا المصطلح في مرات “ثلاث” في آيات القرءان الكريم.. في [المدثر: 12-13؛ البروج: 4-7؛ يونس: 61].
وتتضح دلالة هذه الوضعية الخاصة للمصطلح، من خلال المواضع التي ورد فيها في التنزيل الحكيم؛ ومن بينها قوله تعالى: “وَجَعَلۡتُ لَهُۥ مَالٗا مَّمۡدُودٗا ٭ وَبَنِينَ شُهُودٗا” [المدثر: 12-13]. إذ، إن “شُهُودٗا” تدل على حالتي الشاهدين والشهداء في الوقت نفسه؛ سواء كان هؤلاء الـ”بَنِينَ” من الأولاد، كما يقول كثير من المفسرين، أو كانوا من “الأبنية” كما يقول المفكر السوري محمد شحرور.
أيضا تتضح دلالة الوضعية الخاصة للمصطلح، مصطلح “شهود”، في قوله سبحانه: “وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ” [يونس: 61].
وكما يبدو، فإن مصطلح “شُهُود” يرد في الآية الكريمة للدلالة على أن الله سبحانه وتعالى “شهيد” لهذه الأحداث (دون تجسيد)، و”شاهد” عليها في الوقت نفسه.
وبالتالي أيضا فإذا كان الله تبارك وتعالى هو “الشاهد” المُطلق، وكان “الشهيد” من أسمائه الحُسنى؛ فإن ما توضحه الآيات البينات، في قوله سبحانه: “إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ” [المجادلة: 7]؛ وفي قوله تعالى: “وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ” [الحديد: 4]؛ هو مضمون “الشهيد”.. ومن هنا، نعرف دلالات أسماء الله الحُسنى “عَلِيمٌ.. بَصِيرٞ”، التي تتكامل مع اسمه سبحانه “الشهيد”.
أشهاد الآخرة
ومثلما أن ورود مصطلح “شهود” يؤشر إلى جمع شاهد وجمع شهيد معًا، أي يؤشر إلى أن يكون من يقوم بالشهادة، هو “شاهد” و”شهيد” في الوقت نفسه؛ فإن ورود مصطلح “أشهاد” يأتي ليحمل الدلالة نفسها، بمعنى أنه يؤشر إلى جمع شاهد وجمع شهيد معًا.. لكن الفارق بينهما، أي بين شهود وأشهاد، أن الأول يختص بالحياة الدنيا، فيما يتعلق الآخر بالآخرة.
ففي “مرتين” ورد فيهما مصطلح “أشهاد” في التنزيل الحكيم؛ نُلاحظ أنه ورد حصرًا في مقام اليوم الآخر؛ ولعل ذلك يتأكد عبر قوله عزَّ من قائل: “وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَيَقُولُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ” [هود: 18]. وهنا، لنا أن نُلاحظ دلالات التعبير القرءاني “أُوْلَٰٓئِكَ يُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَيَقُولُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ…”؛ إذ، إن “العرض” يكون في اليوم الآخر؛ و”قول الأشهاد”، الذي هو في اليوم الآخر، هو شهادة على “ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ”.
ولنا أن نتأمل، هنا، كيف أن صيغة “الجمع” في مصطلح “ٱلۡأَشۡهَٰدُ”، في الآية الكريمة، هي صيغة تدل على وجود الدليل الذي لا يُمكن دحضه في مسألة “ٱلشَّهَٰدَةِ”.
وكما يبدو، تتأكد الدلالة ذاتها لمصطلح “الأشهاد”، في قوله عزّ وجل: “إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ” [غافر: 51]. ولعل التساؤل حول التعبير القرءاني “وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ”، تتضح إجابته عبر السياق القرءاني الذي يرد في الآية التالية مباشرة، فهذا اليوم “يَوۡمَ لَا يَنفَعُ ٱلظَّٰلِمِينَ مَعۡذِرَتُهُمۡۖ” [غافر: 52].
ولاستكمال نسق منظومة مسألة “ٱلشَّهَٰدَةِ”، في التنزيل الحكيم، كمصطلح، ودلالات هذا المصطلح، لنا أن نستخرج مصطلحين جاء استعمالهما نادرًا في النص القرءاني، وهما يدلان على “ما يشهد عليه”: أولهما، مصطلح “مَّشۡهَدِ” الذي ورد ذكره “مرة واحدة” في سورة مريم؛ حيث يقول سبحانه: “فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ” [مريم: 37].
أما المصطلح الآخر، فهو مصطلح “مَّشۡهُودٞ” الذي ورد ذكره في مرات “ثلاث” [هود: 103؛ الإسراء: 78؛ البروج: 3].
وللحديث بقية.