“ٱلشَّهَٰدَةِ” في آيات التنزيل الحكيم، هي نوع من إثبات وقوع الحدث؛ بمعنى أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” تتحول إلى واجب تفرضه العدالة، لتحقيق ضرورة اجتماعية نتيجة لوجود “الشاهد” في الحدث، في وقت وظرف محددين، كما تُشير إلى ذلك، كمثال، “آية الدَّين” [البقرة: 282].
ولاستكمال نسق منظومة مسألة “ٱلشَّهَٰدَةِ”، في التنزيل الحكيم، كمصطلح، ودلالات هذا المصطلح، وصلنا في الحديث السابق، إلى ضرورة أن نستخرج مصطلحين جاء استعمالهما نادرا في النص القرءاني، وهما يدلان على “ما يشهد عليه”: أولهما، مصطلح “مَّشۡهَدِ” الذي ورد ذكره “مرة واحدة” [مريم: 37]؛ أما المصطلح الآخر، فهو مصطلح “مَّشۡهُودٞ” الذي ورد ذكره في مرات “ثلاث” [هود: 103؛ الإسراء: 78؛ البروج: 3].
حيث يقول سبحانه: “فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ” [مريم: 37]. و”مَّشۡهَدِ” اسم، والجمع مَشَاهِد؛ وهو، أي “مَّشۡهَدِ”، ما يُشاهد أو ما تتم مُشاهدته، بمعنى “ما يبدو عليه حدث ما في مكان محدد وزمان معين”. و”مَّشۡهَدِ”، بهذا المعنى، يختلف اختلافا كليا عما أورده كثير من المُفسرين القدامى، ومن سار على دربهم من المُحدثين، من أن “مَّشۡهَدِ” هو “شهود يوم القيامة”؛ وفي نظرنا فإن هذا ليس بشيء من حيث دلالة المصطلح “مَّشۡهَدِ”.
فـ”الشهود” مصطلح قرءاني كنا قد حاولنا تلمس دلالته في آيات التنزيل الحكيم، في أحاديث سابقة؛ وهو، أي “الشهود” يختلف، من حيث المفهوم والدلالة، عن مصطلح “مَّشۡهَدِ”. كما أن التعبير القرءاني “مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ”، يختلف عما حاول بعضهم تناوله بمعنى “مشهد عظيم”؛ وذلك لسبب بسيط أن “عَظِيمٍ”، كـ”صفة”، لا يعود إلى “مَّشۡهَدِ”، ولكنه يأتي قرءانيًا صفة لـ”الأقرب”، أي صفة لـ”يَوۡمٍ”. ومن ثم، يُصبح التعبير القرءاني “مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ”، تعبير دال على الحدث، أو الأحداث، في “يَوۡمٍ عَظِيمٍ”.. هو “يوم القيامة”.
أما مصطلح “ٱلۡأَحۡزَابُ”، فهو جمع “حزب” الذي يأتي للدلالة على “تنظيم اجتماعي يضم مجموعة من الأشخاص المتفقين حول فكرة معينة”؛ وأما اختلاف تلك “ٱلۡأَحۡزَابُ”، فكان حول: “عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ” [مريم: 34]. ولنا أن نُلاحظ أن الاختلاف حصل منذ البداية، حيث حرف “الفاء” في مُفتتح الآية، تُشير إلى التعقيب المُباشر: “فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ”؛ وأن الاختلاف كان حول “كنه” نبي الله عيسى عليه السلام، لذلك توعد الله سبحانه الذين كفروا: “فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ”.
بالنسبة إلى مصطلح “مَّشۡهُودٞ”، فقد ورد ذكره في مرات “ثلاث” في آيات التنزيل الحكيم، وذلك بتصريفين مختلفين؛ فهو يأتي بصيغة “صفة” في موضعين، وبصيغة “اسم مفعول” في الموضع الثالث. بالنسبة إلى هذا الموضع الأخير، يقول سبحانه وتعالى: “وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ ٭ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ ٭ وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ ٭ قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ ٭ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ ٭ إِذۡ هُمۡ عَلَيۡهَا قُعُودٞ ٭ وَهُمۡ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ شُهُودٞ” [البروج: 1-7].
وهنا، لنا أن نُلاحظ مصطلح “شُهُودٞ”، وهو المصطلح الدال على جمع شاهد وجمع شهيد معًا، أي يؤشر إلى أن يكون من يأتي بالشهادة، هو “شاهد” و”شهيد” في الوقت نفسه؛ وبالتالي يأتي مصطلح “شهود” ليدل على أن هؤلاء الشهود، هم في موضع “الشهادة الحضورية والمعرفية معًا”؛ ومن ثم، فإن “أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ” هم من “الشهداء” (جمع “شهيد”)، لأنهم كانوا يجلسون حول النار التي يُعذبون بها المؤمنين، فكان كل واحد منهم “شهيدًا” على ذلك؛ وفي الوقت نفسه، كانوا من “الشاهدين” (جمع “شاهد”)، لأنهم هم من أعدوا الأخدود ووضعوا فيه النار؛ لكي يعذّب بها المؤمنون، فكان كل واحد منهم “شاهدًا” على ذلك.
وهنا، لنا أن نُلاحظ أيضا أن مصطلح “مَّشۡهُودٞ” يأتي في هذا الموضع بصيغة “اسم المفعول” عبر التعبير القرءاني “وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ”؛ وهو استعمال فريد، من منظور أن الاسم اكتسب قيمة المطلق، إذ.. هاهنا يُقْسِم الخالق عزَّ وجل بالـ”شَاهِد” والـ”مَشۡهُود” (“كل” ما يُمكن أن يكون في موضع “شهادة”)، بصفتهما ركنين أساسيين لـ”مَّشۡهَدِ” يوم القيامة؛ وفي الوقت نفسه، دليل عليه. ويتضح الاستعمال الفريد، والمتفرد، لمصطلح “مَّشۡهُودٞ”، كذلك، عبر الوحدة غير المنفصلة التي تجمعه بمصطلح “شَاهِد”، عبر التعبير القرءاني “وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ”. هذا، فضلا عما تُتيحه الشحنة الدلالية المكثفة لكافة الاحتمالات التي يكون عليها الـ”مَّشۡهُودٞ”: سواء كان ملموسًا أم مجردًا، مقدسًا أم دنيويًا.. إلخ.
أما من حيث ورود مصطلح “مَّشۡهُودٞ” بصيغة الصفة، فيتبدى بوضوح عبر قوله سبحانه: “إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّمَنۡ خَافَ عَذَابَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ ذَٰلِكَ يَوۡمٞ مَّجۡمُوعٞ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوۡمٞ مَّشۡهُودٞ” [هود: 103]. وهنا، يرد مصطلح “مَّشۡهُودٞ” صفة لليوم الآخر، يوم القيامة: “يَوۡمٞ مَّشۡهُودٞ”؛ اليوم الذي يُجمع فيه كل الناس “ذَٰلِكَ يَوۡمٞ مَّجۡمُوعٞ لَّهُ ٱلنَّاسُ”، ويحضره أهل السماء والأرض، جميعًا، فهو “يَوۡمٞ مَّشۡهُودٞ”.
أما الموضع الآخر، الذي يرد فيه مصطلح “مَّشۡهُودٞ” بصيغة الصفة، فهو قوله تعالى: “أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا” [الإسراء: 78]. وهنا، لنا أن نُلاحظ حرف “الواو” في مصطلح “وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ”؛ فهذا الحرف هو “واو الجمع”، وهو دليل إعجاز في خلق الله سبحانه وتعالى؛ حيث تُقام “صلاة المغرب” مع “صلاة الفجر”، على طرفي الأرض، في آن معًا.. وهنا، نتفق تمامًا مع المفكر السوري رضوان دوابي، في أنه حين تغرب الشمس ويمتد ظل الأرض، يكون الجزء المناظر لذلك في الطرف الآخر من الأرض، قد سطع فيه “ضوء الشمس” على الأفق الأعلى للغلاف الجوي وحصل الفجر.
فـ”الفجر”، إذًا، هو اقتران النهار بالليل، وهو “مَّشۡهُودٞ” عند خلق الله تبارك وتعالى: “إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا”.
وللحديث بقية.