رؤى

“سجال الديمقراطية” (2)  إيجابيات وسلبيات.. تراجع سيادة الدولة

أدى انهيار “الحواجز الاتصالية” إلى “انكشاف” ما في داخل الدول أمام تقنية الاتصالات والمعلومات، وهو ما أظهر بوضوح ضعف قدرات النخب الحاكمة، خاصة في بلدان “الإطار الجنوبي”، على إخفاء حقيقة التطورات والممارسات التي تجري داخل بلدانهم.

يعنى ذلك أنه لم يعد في مقدور هذه النخب ممارسة أفعال من شأنها تشويه صورتها في الخارج، في ظل وجود احتمال خلق رأى عالمي عام مضاد لها، كما أصبح لزامًا عليها تخفيف القيود المفروضة على أجهزة الإعلام في الداخل. إذ ما جدوى تقييد حرية الإعلام في الوقت الذي يستطيع المواطنون، في هذه البلدان، أن يعرفوا ما يجرى داخلها من خلال أجهزة الإعلام “الأجنبية”.

تداعيات المناخ

نتيجة لذلك، فان “المواطن” أصبحت له “قدرة” مستقلة على المعرفة تتجاوز تلك المعرفة التي تفرضها عليه الدولة، وهو ما يسمح له بحرية التفكير والتعلم والاستفادة من تجارب الآخرين؛  بالإضافة إلى إمكانية مقارنة أداء دولته وإنجازاتها بأداء وإنجازات الدول الأخرى في العالم الذي يعاصره هذا المواطن.

وبالإضافة إلي هذا التدفق “الحر” للمعلومات، بما يمثله من شرط أساس من شروط الديموقراطية، من حيث أنه يكفل للمواطن الإمكانية ـ وليس “القدرة” ـ على الاختيار، فإن ثورة الاتصالات الكبرى في العالم، جعلت ظواهر القهر وانتهاكات حقوق الإنسان، في أي دولة من دول العالم، مسألة عالمية، سواء كان القهر قوميًا أو عرقيًا أو سياسيًا. ولعل ذلك لابد وأن يشكل قيدًا على”قدرة” الدولة على العسف أو الاستبداد، تحسبًا لردود الأفعال الدولية.

لكن، وبالرغم من هذه الآفاق الإيجابية التي تحملها “ثورة الاتصالات” للمسألة الديموقراطية؛ إلا أن لها تداعيات أخرى من شأنها عرقلة التطور الديموقراطي.. وخاصة في بلدان”جنوب” العالم.

من هذه التداعيات، أن تلك “الثورة” تؤدى إلى اتساع الهوة بين “الشمال” و”الجنوب”، كما تساهم في زيادة احتمالات تهميش بلدان هذا الأخير، وبالتالي تفاقم مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية التي تعتبر ـ إلي جانب عوامل أخرى ـ معوقات للتطور الديموقراطي الداخلي.. ومن هذه التداعيات أيضا أن ثورة الاتصالات والمعلومات، التي تتحكم فيها الدول الرأسمالية الغربية، قد تساهم في خلق وعي زائف لدى مواطني بلدان الجنوب، خاصة وأن كثيرا من أجهزة الإعلام والاتصال الغربية تفتقد إلي الحيدة والموضوعية في تغطيتها للأحداث والتطورات في تلك البلدان. إذ إن المعلومات التي تبثها هذه الأجهزة يجري انتقاؤها وتصنيفها وتفسيرها، وفقًا لرؤى وحسابات ومصالح الدول المتقدمة، التي تحوز التفوق التقانى..

ومن هذه التداعيات كذلك، أن إحساس المجتمعات “المتخلفة” في الجنوب بأنها عرضة لكي يتلاعب الغير بمقدراتها، إنما يفرز لديها ردود أفعال تزيدها عجزا ـ لا العكس ـ عن مجاراة المجتمعات المتفوقة تقانيًا، ناهيك عن اللحاق بها؛ وبالتالي تلجأ للهروب من المستقبل المجهول إلي ماضٍ معروف، أو مفترض حتى أنه معروف، ومن ثم يتعاظم شأن الماضوية كمنهج للتفسير وكذهنية عامة، تلك التي تحد كثيرًا من التطور الديموقراطي.

تراجع الدولة

أما في ما يخص تراجع “سيادة” الدولة؛ فالملاحظة الجديرة بالاهتمام هنا، أن “المناخ العالمي الجديد” الذي تعيش الدولة القومية في إطاره راهنًا، قد وضع قيودًا عدة على فكرة “السيادة”.

فالدولة لم تعد حرة في فرض النظام الاقتصادي الذي تريده؛ ومن دون شبكات التجارة والاعتماد المتبادل، وفروض وقيود صندوق النقد الدولي وأسواق المال العالمية، لم يعد ممكنًا أو متاحًا أن تختار الدولة نظامًا سياسيًا لا يحترم – أو على الأقل يراعى- مسألة حقوق الإنسان. وإذا كانت هذه نقطة إيجابية بالنسبة للمسألة الديموقراطية، إلا أنه من جانب آخر، يطرح العديد من السلبيات في مواجهة المسألة الديموقراطية.

وبصرف النظر عن المساعدات والقروض والمنح، والتساؤلات التي يمكن أن تثار حولها وحول حقيقة أهدافها، فإن ما يتوجب التأكيد عليه، في هذا المجال، أن ما تمارسه الأركان الأساسية لمنظومة الاقتصاد العالمي، أي الدول الصناعية المتقدمة، من سياسات واعية ومنظمة في تسييد “الليبرالية” كفكرة و”الخوصصة” كأسلوب، يطبق في الأقطار الفقيرة النامية، لا يهدف في الواقع إلا إلي فتحها كأسواق جاهزة للاكتساح أمام صناعاتها المتقدمة.

ولعل في ما تشهده منظمة التجارة العالمية من منازعات، يوضح إلى حد كبير كيف تمارس الدول الصناعية الكبرى سياسات مزدوجة في هذا الميدان.

صحيح أن مثل هذه السياسات الليبرالية، تدفع إلي حدوث نوع من التوسع الاقتصادي في تلك البلدان النامية، وقد يحدث هذا بالفعل في بعضها نتيجة تطبيق برامج “التكيف الهيكلي”؛ ولكنه توسع “سرطاني” يتحقق على حساب تهميش الأغلبية الاجتماعية، وتقزيم السوق الوطنية، ونزوع الاقتصاد الوطني بالضرورة نحو الاندماج، أو الالتحاق بالاقتصادات الكبرى.

وإذا كانت النتيجة المنطقية، في مثل هذه الحال، هي التوتر المجتمعي، وإذا كان هذا التوتر لابد وأن يزداد حدة، خاصة في ظل تراجع “سيادة” الدولة، وما أصاب دورها من “تغيير وظيفي”، تحولت من خلاله إلى مجرد “شرطي” في ما بين القوى المجتمعية وشرائحها المختلفة؛ فان المشكلة التي تواجه الديموقراطية، في هذا الإطار، هي أنها كـ”نظام سياسي” لا يمكن أن توجد وتزدهر إلا في ظل وجود الدولة واستقرار هيبتها.

إذ إن ضعف دور الدولة، وتراجع سيادتها في ظل “المناخ العالمي الجديد”، لا يؤدى دومًا إلي زيادة حرية الفرد وقدرته على مقاومة السلطة الاستبدادية، وإنما من الممكن أن يؤدى إلي انفراط عقد الدولة ذاتها، ومن ثم إلي الفوضى والحرب الأهلية التي تهدد حياة الفرد ووجوده ذاته.

وبعد.. وفي هذا السياق، سياق قياس مدى تأثير العوامل السابقة، التي تشكل في مجموعها بعض من أهم أساسيات “المناخ العالمي الجديد” وبانوراما صورته الراهنة – يبدو أن هذا “المناخ”، وإن كان يتضمن مؤشرات إيجابية تفتح الأبواب للديموقراطية؛ لكي تنتشر وتحقق توسعًا على المستوى العالمي؛ فإنه أيضا يحمل في طياته تناقضات لإجهاض الفكرة الديموقراطية.

وتقديرنا هنا أن المسألة برمتها تتوقف ـ زمنيًا ـ على حسم الصراع بين “النظام الدولي” وبين “النظام العالمي” الذي يحتاج إلي فترة زمنية للتكيف، وترتيب الأوضاع بما يتجاوز التأثير الدراماتيكي للدولة في النظام.

ولكن هذه المسألة الأخيرة – مسألة الصراع بين النظامين- لا تعالج في عجالة، ولو أنها لا تنسى.. خاصة وأن لها علاقة وثيقة بمسألة “ديموقراطية الأقوى”، تلك التي تفرض كثيرًا من  الظلال على الواقع العربي الراهن.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock