في رحلتنا مع مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، عبر أحاديث سابقة، وصلنا إلى أنها “الحضور ومُعاينة الشيء والعلم به”؛ وهي، بذلك، تؤشر إلى “البينة والدليل القاطع، بالحضور والمعاينة والإقرار لأمر ما”. و”ٱلشَّهَٰدَةِ” مصدر مشتق من الجذر “شَ هـِ دَ”، وهو أصل يدل على حضور، ومُشاهدة، وعِلم وإعلام؛ ولفظ “أشهد” من الألفاظ الدالة على “تحقُق الشاهد من الشيء”. وقد سُميت “ٱلشَّهَٰدَةِ” بهذا الاسم لأنها تؤشر إلى “مُشاهدة الشاهد للحدث المشهود”.
ولعل مما له دلالة، في مسألة مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، كما أكدنا أكثر من مرة، أن اعتناق الإسلام “دينا ومُسْتَقَرا” يبدأ بـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله”؛ وهذه الشهادة بالتوحيد وبالاعتراف بالرسول، محمد عليه الصلاة والسلام، هي “البوابة الرئيسة” للدخول في هذا الدين. ومن هنا، تتجلى أهمية هذا المصطلح الإنجازي، أي “ٱلشَّهَٰدَةِ”، والوضع المميز له في الإسلام، وفي كتابه المبارك القرءان الكريم.
ومن ثم، فـ”ٱلشَّهَٰدَةِ” في آيات التنزيل الحكيم، هي نوع من إثبات وقوع الحدث؛ بمعنى أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” تتحول إلى واجب تفرضه العدالة، لتحقيق ضرورة اجتماعية نتيجة لوجود “الشاهد” في الحدث، في وقت وظرف محددين، كما تُشير إلى ذلك، كمثال، “آية الدَّين” [البقرة: 282].
وبالتالي، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه -في هذا الإطار- هو: كيف تعامل التنزيل الحكيم مع من “يكتم” الشهادة، حين ما يُدعى إليها؟
ورد لفظ “كتم”، ومشتقاته، في التنزيل الحكيم في “واحد وعشرين” موضعا؛ رغم ذلك، أو بالرغم من الدورة الدلالية للمصطلح في آيات الله البينات، عبر هذا العدد من مواضع الورود؛ إلا أنه ورد في آيتين كريمتين، فقط، مُتلازما مع مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”.. كما في التعبير القرءاني “وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۗ”، في قوله سبحانه: “أَمۡ تَقُولُونَ إِنَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ قُلۡ ءَأَنتُمۡ أَعۡلَمُ أَمِ ٱللَّهُۗ وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ” [البقرة: 140]؛ وأيضًا، كما في التعبير القراءني “وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ”، في قوله تعالى: “وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ” [البقرة: 283].
وهنا، لنا أن نُلاحظ اقتران كتم الشهادة بالظلم في الآية الأولى “وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۗ”؛ بما يعني أن كاتم الشهادة يتعادل عند الله سبحانه وتعالى مع من “ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِهِۦٓ”، كما في قوله عزَّ وجل: “وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ” [الأنعام: 21]. إذ، يتأكد ذلك، أي تعادل كتم الشهادة مع الافتراء على الله كذبًا، عبر تأمل مُفتتح كل من الآيتين “وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن…”؛ ولذلك، من المنطقي “إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ”.
أما في الآية الكريمة الثانية، لنا أن نُلاحظ “النهي الإلهي” عن كتمان الشهادة “وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ”؛ إضافة إلى الوصف القرءاني لكاتم الشهادة بأنه “ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ”. ولأن القلب هو “مرتكز كينونة الإنسان”، فالجوارح كلها تتأثر بالقلب، سواء الرؤية بالعين أو السمع بالإذن أو غيرها؛ فكإنما الوصف الإلهي “ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ” يؤشر إلى أن الإنسان ـ كاتم الشهادة ـ بكافة جوارحه هو “ءَاثِمٞ”. وبالتالي، سيكون “مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِۚ”؛ كما جاء على لسان أحد “ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ”، في قوله عزَّ من قائل: “إِنِّيٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِي وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِۚ وَذَٰلِكَ جَزَٰٓؤُاْ ٱلظَّٰلِمِينَ” [المائدة: 29].
أضف إلى ذلك، التحذير الإلهي من كتمان الشهادة، الذي يرد في ختام الآية، الثانية، نعني قوله تبارك وتعالى: “وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ” [البقرة: 283]؛ إذ، إنه تحذير من “كتم الشهادة”، وإن كتمها لن يُغير من واقع “علم الله” شيئًا.
في هذا الإطار، يُصبح كتم الشهادة هو “إبطال للحق”، بناءً على “عدم القيام بالشهادة في حال الدعوة إلى أدائها”؛ “إبطال للحق” من حيث إن “الشهادة” تؤشر إلى الشيء الذي شهده الإنسان؛ ومادام الإنسان قد شهد شيئا فهو واقع، والواقع لا يتغير إلا إذا تدخل الإنسان لتغييره من خلال فعل ما.. وهو ما يؤكد من جديد أن “كتم الشهادة” هو محاولة لتغيير، أو إخفاء، أثار واقع الشيء الذي حدث.
ومن ثم، فإن كتمان الشهادة من المنظور القرءاني.. لا يجوز؛ وهو ما يتضح عبر الأمر الإلهي “وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ”، الذي يرد في مُفتتح قوله سبحانه: “وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا” [الطلاق: 2]. ليس ذلك فقط، ولكن أيضًا الأمر الإلهي “كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ”، الذي يرد في قوله تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا” [النساء: 135].
من هنا، وعبر السياق القرءاني، يتضح أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” هي “لِلَّهِۚ”؛ وأنها بهذا المفهوم “يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ”.. وبهذا، يرتبط المفهوم القرءاني لـ”ٱلشَّهَٰدَةِ” بالإيمان “بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ”.
فماذا إذن عن “شهادة الزور”؟
ورد لفظ “زور” في التنزيل الحكيم في “أربعة” مواضع اثنان منهما بـ”ال” التعريف “ٱلزُّورَ” [الحج: 30؛ الفرقان: 72]، والاثنان الآخران دون تعريف “زُورٗا” [الفرقان: 4؛ المجادلة: 2]. ومن بين هذه المواضع الأربعة، ورد اللفظ مرة واحدة مُصاحبًا لمصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”؛ وذلك في قوله سبحانه: “وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا” [الفرقان: 72].
ولأن الزور، قولا أو شهادة، منهي عنه في التنزيل الحكيم، كما في قوله عزَّ وجل: “… فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ” [الحج: 30].. لذا، فإن “لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ” تأتي صفةً قرءانيةً لـ”عِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”، أولئك الذين يقول تعالى عنهم: “وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا” [الفرقان: 36].. وهم -في الوقت نفسه- من يؤكد سبحانه، أنهم: “أُوْلَٰٓئِكَ يُجۡزَوۡنَ ٱلۡغُرۡفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوۡنَ فِيهَا تَحِيَّةٗ وَسَلَٰمًا” [الفرقان: 75].
وللحديث بقية.