لم تكد تمضي بضعُ ساعات على إعلان وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل؛ حتى بادرت ما تُسمى “هيئة تحرير الشام”، وفصائل مسلحة أخرى، بالهجوم على مدينة حلب، ثاني أكبر المدن السورية؛ بما يعني أن توقيت الهجوم، فضلا عن نوعية الأسلحة المستخدمة في الهجوم، ومدى تطورها، لم يكن مصادفة.
أضف إلى ذلك، أن مثل هذا الهجوم من فصيل ينتمي في الأصل إلى تنظيم القاعدة، ويقوده الإرهابي المعروف الجولاني، يستدعي النظر إليه من خلال ديناميكيات الصراعات الإقليمية في المنطقة، وما يراد له من إعادة تشكيل خارطة منطقة الشرق الأوسط، من منظور القوى الدولية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
النظرة العامة للوضع على الأرض في سوريا، يُشير إلى أن الحكومة السورية تُسيطر على حوالي 65 % من الأراضي السورية، بدعم من روسيا وإيران وفصائل مسلحة عراقية، إضافة إلى قوات من حزب الله قبل الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان. أما بقية الأراضي السورية، فهي مُقسمة بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، المدعومة من قبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية؛ إضافة إلى مناطق شمال سوريا وشمالها الغربي، التي تُسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” وجماعات مسلحة أخرى، وتحظى بالدعم التركي.
يعني هذا أن سوريا مقسمة إلى مناطق ثلاث، تتقاسمها دول كبرى مثل روسيا والولايات المتحدة، ودول إقليمية كإيران وتركيا؛ فضلا عن بعض الميليشيات العراقية التابعة لإيران.
وبالتالي، يشهد الصراع في سوريا تصاعدا جديدا مع الهجوم الأخير، الذي نفذته هيئة تحرير الشام ضد قوات النظام السوري في الشمال الغربي من البلاد. وعلى الرغم من أن هذا التصعيد يبدو في ظاهره نتيجة للتوترات الداخلية في سوريا، إلا أن تأثيره يمتد إلى ثلاث دول رئيسة في المنطقة هي: العراق وإيران وتركيا؛ إذ يبدو أن كل دولة لها مصالحها الخاصة في سوريا، وتتأثر بما يجري من تصعيد، سواء من حيث الأمن القومي، أو الاستراتيجية الإقليمية، أو العلاقات الدولية.
وتعد تركيا من أكبر اللاعبين الإقليميين في الشمال السوري، ولها مصالح استراتيجية متعددة؛ حيث تنتشر قوات تابعة لها في عدة نقاط من الشمال السوري، كما تدعم فصائل المعارضة السورية المسلحة؛ لمواجهة قوات النظام السوري والمليشيات الكردية.
لذا، يضع الهجوم الأخير لهيئة تحرير الشام تركيا في موقف معقد. فمن ناحية، تحاول تركيا الحفاظ على علاقاتها مع الفصائل المعارضة التي تُعد هيئة تحرير الشام أحد أهمها، رغم تصنيف العديد من الدول لها منظمة إرهابية؛ إلا أن التصعيد العسكري بين هيئة تحرير الشام والنظام السوري؛ يُعقّد الموقف التركي، لا سيما وأن أنقرة تسعى حاليا إلى تحقيق نوع من الاستقرار في مناطق سيطرتها شمالي سوريا، وذلك ضمن إطار مساعيها لإعادة جزء من اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، وهو ما يعزز شعبيتها داخليا.
بل إن تركيا تخشى أن يؤدي تصعيد هيئة تحرير الشام إلى موجة جديدة من النازحين باتجاه الحدود التركية، وهو ما يزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية على الحكومة التركية، التي تعاني من أزمات متعددة.. كما أن أنقرة تتطلع إلى دور أكبر في مفاوضات الحل السياسي في سوريا، وأي تفجر للوضع الأمني قد يضعف من نفوذها في هذه المفاوضات ويعزز مواقف خصومها.
أما بالنسبة لإيران، فالهجوم الأخير لهيئة تحرير الشام في سوريا، يمثل تحديا لاستراتيجيتها الإقليمية. إيران، التي تدعم الحكومة السورية بشكل كبير، تسعى إلى الحفاظ على سيطرة النظام السوري على أكبر قدر ممكن من الأراضي السورية؛ ويعتبر شمال غرب سوريا من المناطق الحيوية، التي ما تزال تشكل تحديا عسكريا للنظام وحلفائه، بما فيهم الميليشيات المدعومة من إيران.
الوجود الإيراني في سوريا ليس مجرد دعم عسكري للنظام السوري، بل هو جزء من استراتيجية إقليمية تهدف إلى تحقيق النفوذ في شرق البحر المتوسط، ومواجهة القوى المنافسة مثل الولايات المتحدة وإسرائيل. من هنا، فإن تصعيد هيئة تحرير الشام يمثل تهديدا مباشرا للمصالح الإيرانية؛ من حيث إن إيران لا تستطيع تجاهل أن هذا الهجوم قد يؤدي إلى إضعاف نظام الأسد في تلك المناطق، ما يعني أنها قد تضطر إلى تعزيز وجودها العسكري ودعمها لقوات النظام من أجل استعادة التوازن.
إيران أيضا ترى في تصاعد الدور التركي في شمال سوريا تهديدا لمصالحها؛ فبينما تسعى طهران للحفاظ على علاقتها مع أنقرة في قضايا إقليمية أخرى، إلا أن التنافس بينهما في سوريا مستمر، وخاصة في المناطق التي تشهد اشتباكات بين قوات النظام والفصائل المعارضة المدعومة من تركيا. هذا التنافس يؤثر بشكل مباشر على النفوذ الإيراني في سوريا، وعلى مستقبل تواجدها العسكري في البلاد.
العراق، من جهته، ينظر بقلق إلى التصعيد في الشمال السوري. فعلى الرغم من أن الحدود العراقية مع سوريا تعتبر مؤمنة نسبيا، بعد العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش، إلا أن العراق ما يزال عرضة لتهديدات أمنية من تنظيمات إرهابية؛ تنشط على الجانبين السوري والعراقي، بما في ذلك بقايا داعش وبعض الفصائل المتطرفة.
وتعد هيئة تحرير الشام فصيلا قويا له امتدادات أيديولوجية وتنظيمية مع جماعات متطرفة أخرى في المنطقة. ومن هنا، يخشى العراق أن يؤدي تصعيد هيئة تحرير الشام إلى إعادة تنشيط بعض الخلايا الإرهابية في مناطقه الغربية، وخاصة في محافظة الأنبار المحاذية للحدود مع سوريا. فمع كل موجة تصعيد في سوريا، تكون هناك مخاوف من عودة النشاط الإرهابي عبر الحدود المشتركة، وهو ما يتطلب من بغداد تكثيف جهودها الأمنية لمراقبة الحدود ومنع تسلل الإرهابيين إلى داخل أراضيها.
علاوة على ذلك، يستشعر العراق حساسية تزايد النفوذ التركي والإيراني في سوريا، إذ إن استمرار العمليات العسكرية والتدخلات الإقليمية في سوريا، من شأنه أن يُعمِّق الأزمات الأمنية في العراق، ويؤثر على استقراره الداخلي.
بالطبع، من الصعب التكهن بمآلات الهجوم الأخير لهيئة تحرير الشام، وتأثيره على النظام السوري وعلى الأوضاع الإقليمية بشكل عام. إلا أنه من الواضح أن هذا التصعيد سيضع المزيد من الضغوط على تركيا وإيران والعراق. ففي حالة استمرار الهجمات واتساع رقعتها، قد تجد هذه الدول نفسها مجبرة على اتخاذ خطوات أكثر جرأة في سوريا، سواء من خلال التدخل المباشر أو عبر دعم وكلائها المحليين.
تركيا، قد تضطر إلى تعزيز وجودها العسكري في شمال سوريا، وزيادة دعمها للفصائل المعارضة، وذلك بهدف حماية مصالحها ومنع تدهور الأوضاع الأمنية على حدودها.. أما العراق، فقد يجد نفسه مضطرا لتعزيز الإجراءات الأمنية على حدوده مع سوريا، وربما حتى التعاون مع قوى إقليمية ودولية، لمنع انتشار الجماعات الإرهابية.
إيران -من جانبها- قد تزيد من دعمها العسكري للنظام السوري، وتوسيع نفوذها في مناطق القتال من أجل منع أي تفوق للمعارضة المسلحة.
وبالتالي، فإن التصعيد في الشمال السوري لا يمكن فهمه بمعزل عن المصالح الإقليمية للدول المجاورة، وخاصة تركيا، العراق، وإيران.