رؤى

السنن الإلهية.. سنن المجتمع والتاريخ

ورد لفظ “سُنَّةَ” في القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة، إضافة إلى ورود كل من: “سُنَّتِنَا” مرة واحدة، و”سُنَنٌ” مرتان، و”مَسْنُون” مرات ثلاث. وقد وصلنا، في مقالنا السابق حول “السنن الإلهية.. قراءة في قوانين الوجود” (أصوات أونلاين: 9 فبراير)، إلى أن السنة الإلهية، أي: انضباط حركة الأشياء والظواهر على قوانين أو نواميس لا تتبدل، لا بل: انضباط حركة التاريخ الإنساني على سنن لا تتحول؛ لا يمكن لمسلم أن ينكرها ويبقى مسلمًا.

يقول سبحانه وتعالى: “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا” [الأحزاب: 62].. ويقول سبحانه: “فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا” [فاطر: 43].

بل، نجد أن جانبًا كبيرًا من آيات القرآن الكريم يكاد يكون مقصورًا على تعليم الناس، بصيغ شتى، مدى ما في الكون من اتساق ونظام محكم.. وهو، وإن كان يأخذ من هذا دليلًا على وجود الله سبحانه وتعالى، وعلى وحدانيته، كما في قوله عز وجل: “لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ” [الأنبياء: 22].. فإنه، في الوقت نفسه، يدعو الناس إلى التأمل في آيات ونواميس لا تتبدل، لا لمجرد التأمل، ولكن لمعرفتها والعمل وفق نظامها (في إطارها) لتحقيق غاياتهم وأهدافهم.

وفي محاولة الاقتراب من المفهوم القرآني هذا، يمكن ملاحظة ثلاثة جوانب أساسية:

استقراء التاريخ

لعل أول هذه الجوانب، هو ذلك  المتمثل في ملاحظة التأكيد والحث القرآني على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية للتعرف على النواميس والسنن التي تنتظم “الساحة التاريخية”.

إن المثال البالغ الدلالة هنا، هو “القصص القرآني”.. يقول عز وجل: “الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ٭ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٭ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءانَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ” [يوسف: 1 ـ 3].. إذ، يبدو واضحًا الربط بين “الْقَصَصِ” وبين “وحي القرآن” (أي: القرآن الموحى به إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام)، وذلك عبر أداة الربط “بِمَا” التي جاءت في سياق الآية بدلالة “بالذي”.

كما يبدو واضحًا أيضا، التأكيد على ضرورة النظر في هذا القصص القرآني لمعرفة السنن التي تنتظم حوادثه، وذلك كما في قوله سبحانه: “وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ”، حيث تعود الهاء على القرآن. أي إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل وحي القرآن ـ بما يتضمنه من أحسن القصص ـ كان “غافلًا” عن سنن التاريخ وحوادثه معًا.

من جانب آخر، يمكن ملاحظة تأكيد النسق القرآني، ليس فقط على السنن التي تنتظم الساحة التاريخية، ولكن أيضًا على عدد من السمات التي تتسم بها هذه السنن..

من هذه السمات: “الإطراد”، بمعنى أن السنة التاريخية مطردة، ليست علاقة عشوائية، وليست رابطة قائمة على أساس الصدفة، وإنما هي علاقة ذات طابع “موضوعي” لا تختلف في الحالات العادية، أو الاعتيادية بالأحرى، التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة. ويبدو هذا واضحًا، كما في قوله سبحانه وتعالى: “لن تجد لسنة الله تبديلاً” [الكهف: 62، فاطر: 43، الفتح: 23].. وكما في قوله سبحانه: “ولن تجد لسنة الله تحويلاً” [فاطر: 43].. وكما في قوله تعالى: “ولا تجد لسنتنا تحويلاً” [الإسراء: 77].

ومن هذه السمات، أيضًا: “إلهية السنة التاريخية”، بمعنى ارتباط السنة التاريخية بالله سبحانه وتعالى. فهذه السنن ليست خارجة ومن وراء قدرة الله، بل هي تعبير وتجسيد لقدرة الله، سبحانه وتعالى، فهي سنته وحكمته في الكون والتاريخ. يقول سبحانه: “سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا” [الفتح: 23].. ويقول تعالى “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ” [الأحزاب:62].. ويقول: “سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ” [غافر: 85].

قضايا وأشكال

من جانب أخير، يمكن ملاحظة تأكيد النسق القرآني، ليس فقط على السنن التي تنتظم الساحة التاريخية، وليس وحسب على عدد من السمات التي تتسم بها هذه السنن؛ ولكن، إضافة إلى هذه وتلك، على أشكال معينة تخذها سنن التاريخ في القرآن الكريم..

من هذه الأشكال: “القضية الشَرْطية”، بمعنى أن السنة التاريخية، في هذا الشكل، تتمثل في قضية شَرْطية تربط بين حادثين أو مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخية، وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء، وأنه متى تحقق الشرط تحقق الجزاء (وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية في مختلف الساحات الأخرى).

ولأن عددًا كبيرًا من السنن التاريخية في القرآن قد صيغ على شكل “القضية الشرطية”؛ لذا يمكن أن نكتفي بمجرد أمثلة ثلاثة من بين أمثلة كثيرة.. يقول سبحانه وتعالى: “وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا” [الإسراء: 16].. ويقول سبحانه: “وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا” [الجن: 16].. ويقول تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” [الرعد: 11].

ومن هذه الأشكال أيضًا: “القضية الاتجاهية”، بمعنى إن السنة التاريخية، في هذا الشكل، تتمثل في صورة اتجاه في حركة التاريخ لا قانون صارم حدي؛ وهناك فرق بين الاتجاه والقانون: إذ، إن هذا الأخير “حتمي” لا يقبل التحدي، في حين أن الاتجاه يتسم بقدر من المرونة، أي إنه يقبل التحدي ولو في المدى القصير، وإن لم يقبل التحدي في المدى الطويل (ففي هذا المدى سوف يتحطم التحدي قياسًا إلى سنن التاريخ نفسها).

ولعل أهم الأمثلة التي يعرضها القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن التاريخية، هو “الدِّينَ”.. فمن خلال هذا العرض، يمكن ملاحظة كيف أن “الدِّينَ” جاء في السياق القرآني على حالتين:

إحداهما، بوصفه “تشريعًا”، كما في قوله جل جلاله: “شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ” [الشورى: 13].

أما الحالة الثانية، فهي ورود الدين بوصفه “فطرة”، كما في قوله سبحانه وتعالى: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [الروم: 30].. فـ “الدين”، هنا، ليس تشريعًا، ولكنه “فطرة”. ولأن “لا” نافية، وليست ناهية، في قوله: “لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ”، لا يمكن أن ينفك عن الإنسان، فهو “سُنة” لهذا الإنسان.. قد تقبل التحدي على المدى القصير، كمواقف بعض الناس السلبية تجاهه، لذا أشير إلى هذه الخاصية في ختام الآية: “وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”.

هذه الجوانب الثلاثة، باختصار شديد، تشير إلى أن ثمة سنن وضوابط تنتظم “الساحة التاريخية”، مثل ما أن هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية والطبيعية الأخرى.

بيد أن ثمة تساؤلًا يطرح نفسه هنا، هو: هل هناك تناقض في ما بين “حتمية” السنن الإلهية (أي: التي لا تتبدل ولا تتحول)، وبين حرية الإرادة الإنسانية؟!

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock