رؤى

سوريا.. سقوط النظام وتساؤلات المستقبل

لعل ما يجري في سوريا ومع سوريا، ليس وليد اللحظة الراهنة، حتى وإن كان البعض قد ربط ما حدث، وما سوف يحدث، بالمواجهة مع إيران وعمليات تفكيك حلفائها في المنطقة، أو بالتراجع الذي بدا عليه حزب الله؛ ولكن ما حدث له جذور أكثر عمقا من ذلك بكثير. إذ إن الترتيب لهذا؛ كان قد بدأ مع بداية انطلاق الانتفاضة السورية؛ وما جرى طوال تلك السنوات التي مضت، لم يكن إلا محاولة من النظام السوري -الذي رحل- في إدارة الأزمة بشكل يستمر معه في البقاء.

والأهم الآن أنه بعد سقوط نظام الأسد؛ فإن الأمر في سوريا مرشح لمزيد من التدهور والفوضى، خاصة إذا لاحظنا النموذجين العراقي والليبي؛ بل ربما يكون الوضع في سوريا مرشح لأكثر مما حدث في العراق وليبيا، وذلك بسبب طبيعة الجماعات المسلحة التي أسقطت النظام، وتعدد انتماءاتها الطائفية والمذهبية والعرقية؛ والأكثر من ذلك، تعدد مرجعياتها الإقليمية والدولية.

ومن ثم، بعد سقوط نظام بشار الأسد، هل تتجه سوريا إلى التفكك والتقسيم، بتأثير الميليشيات المسلحة المنتشرة هناك؟

بعد أكثر من عقد على بداية الحرب الأهلية السورية، ومع ترسخ حالة الفوضى والاقتتال الداخلي وتزايد التدخلات الإقليمية والدولية، أصبح مستقبل سوريا محور تساؤلات عديدة تتعلق بإمكانية التفكك أو حتى التقسيم؛ خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد، وتنوع القوى المقاتلة، التدخلات الخارجية، المصالح الاقتصادية والجيوسياسية، والبنية الطائفية والعرقية المعقدة في البلاد.

وكما يبدو.. فإن عددا من العوامل المؤثرة؛ سوف تُمثل فواعل في هذا المستقبل، الذي ينتظر سوريا والسوريين.

1 – طبيعة الميليشيات المسلحة ودورها في الصراع؛ فمنذ اندلاع الانتفاضة السورية في عام 2011، تحولت العديد من الفصائل المعارضة إلى ميليشيات مسلحة تسيطر على أجزاء واسعة من الأراضي السورية؛ وتنوعت هذه الميليشيات، من حيث الانتماءات الأيديولوجية والطائفية والسياسية، وظهرت فصائل ذات طابع إسلامي متشدد مثل “جبهة النصرة” و”داعش”، إلى جانب فصائل قومية وكردية مثل “قوات سوريا الديمقراطية”. إضافة إلى ذلك، تشكّلت ميليشيات أخرى -مدعومة من إيران وروسيا- للدفاع عن نظام الأسد.

هذا التعدد في الفصائل المسلحة؛ يُعقّد الوضع بشكل كبير؛ فمعظم هذه الميليشيات تتمتع باستقلالية نسبية عن السلطة المركزية أو حتى عن الفصائل الأخرى، وتفرض سيطرتها على مناطق معينة، ما يجعل من الصعب توحيد البلاد تحت سلطة مركزية واحدة بعد سقوط النظام.

على سبيل المثال، المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي- أصبحت شبه مستقلة، وتدير شئونها بشكل منفصل عن دمشق.

2 – التأثير الإقليمي والدولي على مستقبل سوريا؛ فقد لعبت الدول الإقليمية والدولية أدوارا حاسمة، في تحديد مجريات الحرب الأهلية السورية. إيران وروسيا كانتا أكبر داعمين للنظام السوري، فيما دعمت تركيا وعدد من دول الخليج، بعض الفصائل المعارضة، والولايات المتحدة تدخلت في محاربة “داعش” ودعمت الأكراد في الشمال الشرقي. هذا التدخل الإقليمي والدولي له آثار كبيرة على احتمالات التفكك.

إيران، على سبيل المثال، لديها مصلحة في الحفاظ على وجودها في سوريا، من خلال دعم الميليشيات الشيعية التي تتواجد في مناطق عدة، خصوصا في الجنوب وعلى الحدود مع لبنان. روسيا من جهتها ترى في سوريا قاعدة استراتيجية في شرق المتوسط. أما تركيا، فهي تسعى لضمان نفوذها في الشمال السوري، ومنع إقامة كيان كردي مستقل على حدودها.

تضارب هذه المصالح قد يؤدي إلى تقسيم فعلي أو غير معلن لسوريا، حيث تسعى كل دولة لتحقيق أهدافها؛ عبر دعم الفصائل الموالية لها؛ وهذا الوضع يعزز من فرص تفكك سوريا إلى مناطق نفوذ متعددة، كل منها يخضع لسيطرة ميليشيا معينة أو قوة إقليمية.

3 – تداعيات التعدد العرقي والطائفي في البلاد؛ إذ إن سوريا مجتمع متنوع، يضم مجموعات طائفية وعرقية متعددة، مثل: العلويين، السنة، الدروز، المسيحيين، والأكراد. هذه التعددية كانت عاملا في تعقيد النزاع، حيث ارتبط العديد من الميليشيات بخلفيات طائفية أو عرقية. وقد اعتمد النظام السوري الذي يسيطر عليه العلويون -بشكل كبير- على دعم ميليشيات شيعية من خارج البلاد، ما عمَّق من الهوة الطائفية بين العلويين والسنة في البلاد.

أما الأكراد الذين يمثلون نحو 10% من السكان، استغلوا الفوضى لتشكيل كيان شبه مستقل في الشمال الشرقي، يديرونه عبر “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”. ورغم أن هذا الكيان لم يعلن استقلاله الكامل، إلا أنه يتمتع باستقلالية واسعة عن دمشق؛ ومع سقوط النظام، سوف يسعى الأكراد لتعزيز استقلالهم، ما قد يدفع بمجموعات أخرى في سوريا، مثل الدروز أو العشائر السنية، للبحث عن استقلالية مشابهة.

بعد سقوط نظام الأسد، يمكن تصور عدة مشاهد لمستقبل سوريا.. أهمها ما يلي:

1 – التقسيم الفعلي الميداني؛ ويعتبر هذا المشهد (السيناريو) الأكثر تشاؤما، ولكنه ممكن بالنظر إلى تعقيد الوضع الميداني. في هذا المشهد، تتقسم سوريا إلى عدة كيانات سياسية، مثل دولة كردية في الشمال الشرقي، دولة علوية في الساحل، ودولة سنية في وسط البلاد. هذا التقسيم قد يحدث إما بشكل غير رسمي من خلال سيطرة كل ميليشيا على منطقة معينة، أو من خلال اتفاقات دولية تعيد رسم حدود البلاد.

إلا أن هذا المشهد يواجه عقبات كبيرة، أبرزها معارضة المجتمع الدولي لفكرة تقسيم سوريا، إضافة إلى مقاومة الشعب السوري لفكرة تقسيم بلدهم. رغم ذلك، لا يمكن استبعاد هذا الاحتمال إذا استمرت الأوضاع الحالية، خاصة بعد أن انهارت السلطة المركزية بشكل نهائي.

2 – مشهد الفوضى المستمرة؛ وهذا المشهد يشير إلى احتمال استمرار حالة الفوضى والصراع بين الميليشيات لفترة طويلة بعد سقوط النظام، دون قدرة أي طرف على فرض سيطرته الكاملة. في هذه الحالة، قد تتحول سوريا إلى “دولة فاشلة”، حيث تسيطر الفصائل المسلحة على مناطق مختلفة من البلاد وتستمر الحرب الأهلية بشكل متقطع.

3 – الاتفاق السياسي الانتقالي؛ إذ رغم كل الصعوبات، قد يكون هناك سيناريو اتفاق سياسي بين القوى المحلية والإقليمية والدولية، على تشكيل حكومة انتقالية أو حكومة وحدة وطنية تمثل جميع الأطراف. هذا المشهد يعتمد بشكل كبير على رغبة الأطراف الخارجية في إنهاء الصراع السوري، والحفاظ على وحدة البلاد. إلا أن تنفيذ هذا المشهد يتطلب توافقا دوليا، خصوصا بين القوى الكبرى مثل روسيا والولايات المتحدة، وكذلك موافقة الأطراف المحلية، وهو ما يبدو صعبا في الظروف الحالية.

وهكذا.. من الصعب التنبؤ بمستقبل سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، لكن من المؤكد أن البلاد ستواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على وحدتها واستقرارها. تأثير الميليشيات المسلحة، التدخلات الخارجية، والصراعات الطائفية والعرقية تشكل عوامل رئيسية- قد تدفع نحو التفكك أو على الأقل استمرار حالة الفوضى لفترة طويلة.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock