رؤى

الاهتمام الروسي بالسودان.. أبعاده ودوافعه

قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بزيارة إلى العاصمة السودانية الخرطوم، الأربعاء 8 فبراير، أجرى خلالها مباحثات مع المسئولين السودانيين، في مقدمهم رئيس مجلس السيادة السوداني ونائبه، بجانب وزير الخارجية المُكلف، السفير علي الصادق.

وتأتي زيارة لافروف في ظل تعقيدات إقليمية ودولية، وموجة استقطابات حادة تجتاح المجتمع الدولي، في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية.

وتأتي الزيارة لتطرح عددًا من التساؤلات حول الأهداف الروسية من التقارب مع السودان؛ خاصة وأن الأخير يُعاني وضعا استثنائيًا، في ظرفه الراهن سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، وتخوفات إقليمية ودولية من انفلات الوضع فيه، وانتقال تأثير ذلك على مُحيطه الإقليمي؛ نظرًا لأهمية الموقع الجيواستراتيجي للسودان.

دوافع متعددة

لعل تتبع مسار العلاقات الروسية السودانية، خلال العامين الأخيرين على الأقل، يُشير إلى أن موسكو تنتهج سياسة واضحة الأهداف في علاقتها بالخرطوم، لخدمة مصالحها في المنطقة، بما يتجاوز السودان نفسه.

وكما يبدو.. فقد استهدفت زيارة لافروف إلى الخرطوم عددًا من الدوافع السياسية والاقتصادية؛ فضلًا عن التعاون الأمني والعسكري.. منها تأمين الارتكاز البحري لموسكو في البحر الأحمر. ففي مؤتمره الصحافي مع علي الصادق، جاء إعلان وزير الخارجية الروسي، عن أن “موسكو تنتظر موافقة الخرطوم على الصعيد البرلماني بشأن قاعدة بحرية مُقررة على البحر الأحمر”، مُؤكدًا على أن “الاتفاق الذي وقع بالفعل يحتاج إلى التصديق عليه”؛ ومُشيرًا في الوقت نفسه، إلى أن “الاتفاق على إنشاء مركز دعم مادي للبحرية الروسية في السودان، هو في طور المُصادقة عليه”.

والمُلاحظ أن القاعدة اللوجستية في بورتسودان، تُعد مرحلة أولية أمام مشروع طويل الأمد تطمح روسيا من خلاله تحقيق مجموعة من الأهداف في وقت واحد.. أهمها: إن وجود منشأة عسكرية في بورتسودان، ولو كانت في البداية في صعيد لوجستي، فهي تؤشر إلى المحاولة الروسية في تأمين الارتكاز البحري لموسكو في السودان، ما يسهم في إمكانية التأثير على عمليات النقل للتجارة الدولية في البحر الأحمر؛ وهو ما يعني فرض روسيا لنفسها كـ”لاعب متحكِّم” في معادلات الطاقة الجديدة، التي يمر جزء كبير منها عبر مضيق باب المندب.

إضافة إلى ما يُمكن أن يُتيحه المركز اللوجستي، من تعزيز الأسطول الروسي لموقعه البحري في المحيط الهندي؛ ما يوفر مرفقَّا آخر للمياه الدافئة، إلى جانب قاعدة طرطوس في سوريا، حيث يسمح ذلك للسفن الروسية بالمرور عبر خليج عدن والبحر الأحمر بهدف تأمين الإمداد والخدمات اللوجستية المختلفة.

ومنها أيضًا التعاون الأمني والعسكري في الساحل الأفريقي؛ إذ يأتي هذا التعاون ممثلا لواحدً من أهم الأهداف الاستراتيجية الروسية من التقارب مع السودان؛ حيث إن روسيا تنظر من خلال علاقتها الحالية مع الخرطوم إلى ما وراء السودان من دول الساحل الأفريقي، في ظل صراع محتدم بينها وبين فرنسا على النفوذ في هذه الدول.

وهنا تبدو المحاولة الروسية في العودة إلى الخريطة الجيوسياسية في أفريقيا والطرق البحرية، وذلك من خلال استخدام السودان نقطة انطلاق إلى دول منطقة الساحل، خاصة في مالي التي تُمثل آخر النماذج التي شهدت تناميا للدور الروسي في هذه المنطقة.

بل، قد تزداد جهود روسيا مستقبلًا، ليس فقط في الساحل الأفريقي، ولكن في منطقة وسط أفريقيا، حيث نشاط مجموعة فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى، مدعوما بدورها في السودان؛ بما يستهدف نقل موارد المجموعة بين البلدين، بصورة باتت تُشكل مثلث النفوذ الروسي في المنطقة، الممتد بين السودان وأفريقيا الوسطى وليبيا؛ فضلا عن وجودها في مالي.

ومنها كذلك.. السعي إلى الدعم السياسي وتفعيل النفوذ؛ إذ ليس من المُصادفة أن تأتي زيارة لافروف، في توقيت يشهد فيه السودان زيارة ستة مبعوثين دوليين إلى الخرطوم؛ خاصة في ظل السعي الروسي إلى “التعاون في الجانب السياسي” مع الدول العربية والأفريقية، بحسب تصريحات لافروف نفسه – الخميس 9 فبراير- عقب اجتماعه مع رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان؛ مؤكدا أن “وجهات النظر متوافقة في عدد من الملفات الإقليمية، أبرزها ليبيا وسوريا والقضية الفلسطينية”.

واللافت أن أحد أهم الأهداف الاستراتيجية لروسيا، من وراء سعيها لتقوية نفوذها في السودان، هو محاولتها تأسيس نظام أمن إقليمي يحمي مصالحها، في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، بهدف خدمة أهدافها في شرق أوروبا وشرق المتوسط؛ إلى جانب التهرب من حزمة العقوبات الغربية المفروضة عليها، منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل أكثر من عام. هذا، فضلًا عن السعى إلى كسب الدعم السياسي، خاصة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، عبر التحركات التي يقوم بها وزير خارجيتها، من خلال عدد من جولاته، خاصة في القارة الأفريقية، من بينها الحالية التي يأتي السودان في مقدمتها.

ثم يأتي الدافع الخاص بالتعاون الاقتصادي ورفع ميزان التبادل التجاري؛ فكما أن زيارة لافروف لها أبعادها السياسية، فإن لها أيضا أبعاد اقتصادية وتجارية؛ حيث كانت من بنود الزيارة مناقشة بعض الجوانب الاقتصادية وتفعيل الاتفاقيات الثنائية، وآخرها اتفاقيات اللجنة الوزارية المشتركة بين السودان وروسيا، بالعاصمة موسكو، في أغسطس 2022. وقد أشار لافروف، في مؤتمره الصحافي مع وزير الخارجية السوداني المُكلف، علي الصادق، إلى أن “التعاون الاقتصادي والتجاري جيد مع السودان”، مُشيدا بدور السلطات السودانية “في تسهيل عمل الشركات الروسية، وجذب مزيد من الاستثمارات الروسية للسودان”.

وتأتي إشارة لافروف هذه، لتؤكد على سنوات من التعاون الروسي السوداني في مجال التنقيب عن المعادن والنفط في السودان. إذ، دخل سوق التنقيب السوداني، منذ عام 2017، عدد من الشركات الروسية، على رأسها شركة “فاغنر”، التي أطلقت بحثها عن الذهب من خلال شركتي “مروي جولد” و”إم إنفست”.

أضف إلى ذلك، أن تواجد “فاغنر” في دارفور وجنوب كردفان، يعود إلى أن تلك المناطق غنية بالذهب واليورانيوم، والمعادن الثمينة الأخرى؛ خاصة أنها بعيدة عن الرقابة الحكومية، وتنتشر فيها الحركات المُسلحة؛ فضلًا عن أنها مناطق واسعة تُعاني من سيولة أمنية، ومفتوحة على دول الساحل الأفريقي.

تفعيل النفوذ

في هذا السياق، يمكن القول بأن اهتمام موسكو بالتقارب مع السودان، يُفصح عن مشروع روسي طويل الأمد، يتخذ من السودان “بوابة جيواستراتيجية” إلى العمق الأفريقي، حيث وسط أفريقيا ومنطقة الساحل؛ خاصة أن روسيا تنتهز فرص سياسات “فك الارتباط” الأمريكي مع المنطقة. فبعد نجاحها في دخول مياه المتوسط عبر سوريا، وإنشائها قاعدة عسكرية بحرية في طرطوس، تحاول أيضًا مد نفوذها إلى مياه البحر الأحمر، عبر بوابة السودان؛ بما يُمثله من ثقل استراتيجي، عاد إليه زخم التنافس الدولي في السنوات الأخيرة.

وحيال إقدام موسكو على إنشاء المركز اللوجستي البحري الذي أعلنت عنه، في السودان، كخطوة أولى في تحويله إلى قاعدة بحرية فيما بعد، يكون من المتوقع أن تزيد المخاطر والنزاعات في منطقة القرن الأفريقي، بل ويزيد من حالة عسكرة المياه الدولية، عند مداخل البحر الأحمر وباب المندب.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock