بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عمان
منذ بداية طوفان الأقصى بلور التفكير الأمريكي خطرين استراتيجيين على واشنطن وعلى إسرائيل كيانها الوظيفي المزروع الذي يضمن هيمنتها على العرب الضعفاء ويضمن لها أكبر حصة من نفطها وبترو-دولارها:
الخطر الأول ذو طابع جيوسياسي وهو أن محور المقاومة قادر تدريجيا على زعزعة احتلال إسرائيل لفلسطين؛ فقد أثبت هجوم ٧ أكتوبر المباغت هشاشة الجيش الإسرائيلي بسقوط غلاف غزة في لمح البصر وأثبتت صواريخ غزة وجنوب لبنان والإيرانيين قدرتها على تهديد كامل جغرافيا فلسطين التاريخية بما فيها الوصول لغرفة نوم رئيس حكومتها. ترتيبا على ذلك حسمت أمريكا خياراتها في الانتقال من تدوير الصراع مع محور المقاومة خاصة حماس والجهاد في فلسطين وحزب الله في لبنان عبر جولات منفصلة إلى الحسم بالتصفية التامة أو بشلل يعجزها عن المقاومة لسنوات طويلة. يجري بعده الانتقال لإيران نفسها بإسقاط نظامها من الداخل ومنعها بكل السبل من الوصول للسلاح النووي ومن ثم إبقاء المنطقة تحت رحمة السلاح النووي الوحيد الموجود احتكارا في يد إسرائيل.
معروف ما فعلته أمريكا من اشتراك مباشر مع الجيش الإسرائيلي في تدمير المقاومة وتدمير غزة لأول حرب إبادة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر. اعترف بهذه الإبادة الباحثون والمؤرخون الإسرائيليون بل وحتى وزير الدفاع ورئيس الأركان الأسبق موشيه يعلون. ومعروف كذلك أن ما فعلته مؤخرا من دفع للجماعات الإرهابية في سوريا بالتعاون مع إسرائيل وتركيا وأطراف عربية لها ثأر مع نظام الأسد هو جزء من سعيهم لتقويض محور المقاومة بإخراج سوريا ركيزة هذا المحور والوسيط الجغرافي لإيصال إمدادات إيران العسكرية لحزب الله والمقاومة الفلسطينية التي بدونها ما تمكنت المقاومة من منع إسرائيل من شطب القضية الفلسطينية خاصة وقد نفضت الدول العربية يدها من المواجهة مع إسرائيل.
الخطر الاستراتيجي الثاني الذي رصدته أمريكا واستطلاعات رأيها وسفاراتها هو تحقيق الوحدة الشعورية للجماهير العربية في دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية بعد طوفان الأقصى وزيادة شعبية حركات المقاومة وانحسار تأييد السلطة الفلسطينية ونبذها خضوع النظام العربي الرسمي. أي تحققت وحدة الانحياز الكامل لخيار المقاومة واليأس التام من مسار التسوية السياسية والتطبيع الذي لم يجلب غير الاستيطان والحصار وتحويل الفلسطينيين لمعسكرين متواجهين أحيانا بالدم كما في ٢٠٠٧.
هذه الوحدة الشعورية استعادت روح الانتماء لأمة عربية واحدة بوصلتها هي قضية فلسطين. حطمت هذه الوحدة الشعورية كل ما أنجزته أمريكا وإسرائيل منذ كامب ديفيد من تحويل النزاعات العربية الرسمية إلى نزاعات بين الشعوب. وحرضت لجان إلكترونية إسرائيلية متخفية تحت أسماء عربية كل شعب عربي على الكراهية والسخرية من أشقائه من الشعوب العربية الأخرى. ذاب ذلك كله بفضل طوفان الأقصى ووحدت المقاومة وغزة السنة والشيعة والتيارات الثقافية والسياسية العربية. سنحت فرصة تاريخية لإعادة الحياة إلى الحركة الشعبية العربية وخلق ظهير شعبي للمقاومة متحلق حول فلسطين. هذه الوحدة الشعورية كان مظهرها المخيف المقلق للأمريكيين هو تصاعد مشاعر العداء والكراهية للولايات المتحدة في تقارير سفاراتها بالمنطقة بصورة لم تحدث من قبل بما يعنيه من نشوء أجيال عربية كاملة تطلب الثأر من أمريكا وتراها العدو الحقيقي وإسرائيل مجرد الأداة.
هذا هو الإنجاز الاستراتيجي الأكبر لطوفان الأقصى الذي قض مضجع صانع الاستراتيجية الأمريكي: الأغلبية الساحقة للأمة العربية منحازة لخيار المقاومة والعداء للولايات المتحدة لدعمها المطلق لإسرائيل في احتلالها للأراضي الفلسطينية وفي حرب إبادة الفلسطينيين.
وهنا تتضح خطورة تحريك الهجوم الكبير للجماعات المسلحة في سوريا من قبل التحالف الأمريكي – التركي – الإسرائيلي في أنه موجه عمدا لإعادة شعوب الأمة العربية لحالة التطاحن المذهبي (سني وشيعي)، والاثني (كردي، أمازيغي، عربي)، والطائفي (مسلم ومسيحي) وضرب الوحدة الشعورية الشعبية مرة أخرى. وإذا كان الكثيرون يرون وعن حق أن ما يحدث في غزة ليس حربا وإنما عملية إبادة جماعية وتطهير عرقي فإن هذا المقال يرى أن ما يحدث في سوريا ليس حربا وإنما فتنة بين الشعوب العربية وتياراتها الفكرية والسياسية. السبب في ذلك معروف فإذا كانت فلسطين قادرة على توحيد كل العرب حول خيار المقاومة، حتى المعارك الإعلامية التي رآها الناس حول جدوى طوفان الأقصى ظلت خلافا بين النخب الموالية للغرب ونخب التحرر الوطني لم تمس الشعوب التي حسمت أمرها مع المقاومة منذ صباح ٧ أكتوبر. المشهد السوري هو النقيض تماما فمن بدايته في ٢٠١١ هو مشهد استقطابي تقسيمي حتى على المستوى الشعبي فالتيارات الإسلامية اعتبرت إسقاط نظام سياسي مغلق سبب كافي لاستدعاء الناتو «القرضاوي والبيانوني» وللقيام بتسليح جماعات الإرهاب بينما التيارات القومية واليسارية المعارضة للنظام وسجنت فترات في عهوده أصرت على رفض التدخل الأجنبي وتحويل حراك عام ٢٠١١ إلي حرب أهلية تدعمها واشنطن وتركيا ودول عربية وتمسكت بوحدة سوريا وحل النزاع مع النظام سلميا.
دفن هذا الاستقطاب المرير خمسمائة يوم ونحو ما يقرب من ١٧ شهرا فقام الأمريكيون بإيقاظ الفتنة مرة أخرى وإحيائها مرة أخرى. كان محزنا بقدر ما هو سيريالي احتفاء أطراف عربية داعمة للمقاومة بنصر لجماعات مسلحة تعرف أنه سيحطم محور المقاومة ويمنع إمدادها بالسلاح، وأنها وقفت دون أن تقصد في معسكر نتنياهو ورئيس الكنيست الذي اعترفوا بأن تقدم جبهة تحرير الشام في صالح إسرائيل ويزيد من ضعف المقاومة. وكان مخيفا ويأتي من دنيا العجائب والغرائب أيضا أن داعمي المقاومة من الشعوب والنخب تحولوا في الأسبوع الأخير من هجوم المسلحين على حلب وحماة وحمص من التعلق بوسائل الإعلام الداعمة للمقاومة الفلسطينية طيلة الحرب إلى متابعة وسائل الإعلام العربية التي كانت تعادي المقاومة وتنحاز لإسرائيل. السبب في أن الإعلام الداعم للمقاومة طيلة الحرب تحول مع سوريا للاحتفاء بتقدم الجماعات المسلحة على النظام السوري وأصبح محللوه مرة واحدة يصفون ميليشيات المقاومة بالميليشيات الشيعية التابعة لإيران. بينما تحول الإعلام المعادي للمقاومة لكن القلق من عودة الجماعات المتطرفة إلى دعم الحكومة السورية والتحذير من تقدم جبهة تحرير الشام. عاد الارتباك والاستقطاب الشعوري والحيرة والبلبلة للمواطن العربي العادي بعد الوحدة بشأن فلسطين والمقاومة. وعاد الإسلاميون من جهة والقوميون واليساريون من جهة أخرى لحرب داحس والغبراء القديمة. قد تنجح الأنظمة العربية المتنازعة بشأن سوريا في الوصول لحل ميكافيلي عن طريق ما يسمي «بالآستانة بلس» وقد لا ينجحون. لكن ضياع المكسب الاستراتيجي لطوفان الأقصى في تحقيقه لوحدة شعور الأمة وإيمانها بأنها يمكن أن تهزم العدو وتستنزف قواه، سيأخذ وقتا طويلا جدا حتى يمكن استعادته واستعادة روح الأمة.