شهد العام الجاري عددا من المؤشرات الدالة على محاولات الصين، العودة إلى الساحة الليبية بعد غياب طويل، استمر منذ سقوط نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي؛ فقد زار رئيس حكومة الوحدة الوطنية -منتهية الولاية- عبد الحميد الدبيبة، العاصمة الصينية بكين، للمشاركة في منتدى التعاون الصيني العربي، في مايو الماضي؛ وفي سبتمبر الماضي.. زار رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، الصين للمشاركة في منتدى التعاون الصيني الأفريقي.
وإذا كانت العودة الصينية إلى ليبيا تحمل تحديات كبيرة للاعبين الدوليين في ليبيا؛ فإن هذه التحديات تدفع إلى التساؤل حول حدود الدور الصيني في ليبيا، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو العسكري.
في ظل التغيرات الجيوسياسية والتحولات الاقتصادية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، باتت ليبيا مركزا مُهِمّا للصراع والتنافس بين القوى العالمية. من بين هذه القوى، برزت الصين فاعلا رئيسا سعيا لتعزيز نفوذها في البلاد؛ مستغلة حالة الفوضى السياسية والتغيرات الاقتصادية والعسكرية التي تشهدها ليبيا، منذ سقوط نظام القذافي عام 2011.
على المستوى السياسي.. تلعب الصين دورا دبلوماسيا حذرا في ليبيا، حيث تُركّز على الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع الأطراف الفاعلة في النزاع الليبي؛ إذ تتبنى بكين سياسة عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، وهو موقف ثابت في سياستها الخارجية، ما يجعلها شريكا مقبولا لدى الفصائل الليبية المختلفة. وبدلا من الانحياز إلى طرف دون الآخر، سعت الصين إلى الحفاظ على توازن في علاقاتها مع حكومة طرابلس، وكذلك مع الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر.
ومن الواضح أن أهداف الصين السياسية في ليبيا تتجاوز مجرد الحفاظ على الاستقرار؛ فهي تسعى لتعزيز نفوذها في شمال إفريقيا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط ككل، مع التركيز على دورها بوصفها قوة موازنة للقوى الغربية. وفي إطار مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين، تشكل ليبيا حلقة وصل مهمة لربط مشاريع البنية التحتية الصينية في أفريقيا بأوروبا عبر البحر المتوسط. لذا فإن الاستقرار السياسي في ليبيا يُعدُّ أمرا حيويا بالنسبة لبكين؛ ضمانا لنجاح مشاريعها الاستراتيجية في المنطقة.
على المستوى الاقتصادي.. تُشكِّل ليبيا فرصة اقتصادية كبيرة بالنسبة للصين، لا سيما في ظل الاحتياجات الضخمة لإعادة إعمار البنية التحتية التي دمرتها الحرب. ومع التوقعات بأن تشهد البلاد استقرارا نسبيا في المستقبل القريب، تتطلع الصين إلى تعزيز استثماراتها في قطاعات: الطاقة، النفط، والغاز، إضافة إلى مشاريع البنية التحتية.
قبل اندلاع الصراع في ليبيا، كانت الشركات الصينية حاضرة بقوة في البلاد، حيث شاركت في تنفيذ مشاريعَ ضخمة في مجال البنية التحتية، مثل بناء الطرق السريعة والمطارات. وبعد توقف العديد من هذه المشاريع بسبب الحرب، تسعى الصين الآن إلى استئناف أنشطتها في ليبيا، خصوصا في إطار مبادرة الحزام والطريق التي تهدف إلى بناء طرق تجارية عالمية.
ويُعدُّ النفط الليبي أحد أهم الأصول الاقتصادية التي تسعى الصين إلى الاستفادة منها؛ إذ تعتبره موردا هامًّا لتأمين مصادر الطاقة لاقتصادها المتعطش للنفط. ومن خلال إقامة شراكات مع الشركات الليبية الوطنية، وكذلك السعي إلى توقيع عقود طويلة الأجل لاستيراد النفط الليبي، تأمل الصين في تعزيز مكانتها كأحد أكبر المستثمرين الأجانب في قطاع الطاقة الليبي.
إضافة إلى النفط، تعد ليبيا بوابة لأسواق إفريقيا، وهي قارة ذات أهمية كبيرة للاستراتيجية الاقتصادية الصينية؛ فمن خلال إقامة علاقات اقتصادية قوية مع ليبيا، تأمل الصين في تسهيل دخول منتجاتها واستثماراتها إلى أسواق إفريقيا عبر البحر المتوسط.
على المستوى العسكري.. رغم تركيز الصين على البعد الاقتصادي والسياسي في ليبيا، فإن حضورها العسكري هناك محدود نسبيا؛ مقارنة بالقوى الغربية وروسيا. حيث تتجنب الصين عادةً التدخل العسكري المباشر في الصراعات الخارجية، ولكنها تبقى متيقظة للتطورات الأمنية في ليبيا، خاصةً مع تصاعد أنشطة الجماعات الإرهابية، وتهديدات أمنية أخرى قد تؤثر على مصالحها.
وتتمثل المشاركة العسكرية الصينية في ليبيا، في التعاون الأمني والدفاعي غير المباشر، حيث تقدم بكين الدعم الفني والتدريب للقوات الليبية عبر برامج الأمم المتحدة، لكنها تتجنب إرسال قوات عسكرية إلى البلاد. ومع ذلك، فإن الصين لا تزال تحتفظ بخياراتها مفتوحة في حال تطلبت الظروف تعزيز الحضور العسكري لحماية استثماراتها في المستقبل.
كما أن موقع ليبيا الاستراتيجي يجعلها نقطة اهتمام للصين، خاصةً في ظل تطلع بكين إلى توسيع نفوذها العسكري خارج حدودها التقليدية. ورغم أن الصين لا تسعى حاليا إلى إقامة قواعد عسكرية في ليبيا، إلا أن توسعها في مناطق أخرى من إفريقيا – مثل جيبوتي- قد يشير إلى احتمال التفكير في مثل هذه الخيارات على المدى الطويل.
مستقبل الدور الصيني في ليبيا يعتمد إلى حد كبير على التطورات السياسية والأمنية في البلاد. إذا تمكنت الأطراف الليبية من التوصل إلى تسوية سياسية دائمة، فإن الصين ستكون في وضع جيد لتعزيز نفوذها الاقتصادي والمشاركة في إعادة إعمار البلاد. ومع ذلك، فإن استمرار الفوضى الأمنية- قد يدفع الصين إلى تقليص طموحاتها في ليبيا، أو على الأقل تبني استراتيجيات أكثر حذرا لحماية استثماراتها.
من ناحية أخرى، التنافس الدولي على ليبيا قد يؤدي إلى تحديات جديدة للصين؛ إذ مع وجود لاعبين آخرين مثل الولايات المتحدة وروسيا وتركيا، قد تجد الصين نفسها في مواجهة ضغوط للتكيف مع ديناميكيات جديدة في البلاد. ومع ذلك، تظل الصين في وضع متميز بفضل سياساتها البراغماتية وقدرتها على بناء علاقات إيجابية مع مختلف الفصائل الليبية.
ومن المتوقع أن يظل النفوذ الصيني في ليبيا، في المستقبل، متوسط الحجم مقارنة بالقوى الغربية، لكنه سيعتمد على استراتيجيات بعيدة المدى تهدف إلى تأمين مصالح اقتصادية ودبلوماسية، مع الحفاظ على مسافة من الصراعات العسكرية المباشرة.
وهكذا.. تسعى الصين إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية الكبيرة التي تقدمها ليبيا، لا سيما في قطاعات النفط والبنية التحتية، لكنها في الوقت ذاته تدرك أن تحقيق هذه المصالح يتطلب استقرارا سياسيا وأمنيا. ومن خلال تبني استراتيجية طويلة الأمد، تستند إلى التعاون الاقتصادي والدبلوماسي، تأمل الصين في تعزيز نفوذها في ليبيا دون التورط في النزاعات الداخلية المسلحة.