منذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015، عززت روسيا نفوذها في الشرق الأوسط، وفرضت نفسها قوةً رئيسةً في المنطقة. وقد لعب هذا التدخل دورا أساسيا في إنقاذ نظام بشار الأسد من الانهيار، وساعد في ترسيخ التواجد الروسي العسكري والسياسي في سوريا، خاصة من خلال قاعدتي طرطوس وحميميم. ولكن، مع سقوط نظام الأسد، في 8 ديسمبر 2024، أصبح هذا التواجد العسكري يواجه تحديات غير مسبوقة، قد تهدد استمرار نفوذه في المنطقة ككل.
ومن الواضح، أن هذا التحول الحاصل في سوريا، يفرض على روسيا إعادة تقييم استراتيجياتها في سوريا، وفي منطقة شرق البحر المتوسط بصفة عامة.
لطالما كان للبحر المتوسط أهمية استراتيجية قصوى بالنسبة لروسيا، التي تسعى لتعزيز نفوذها في هذا البحر، ضمن جهودها لتحقيق التوازن مع القوى الغربية والولايات المتحدة. ويُعدُّ البحر المتوسط حلقة وصل حيوية للتجارة العالمية والطاقة، وهو بوابة للوصول إلى أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط.
في هذا الإطار، تمثل سوريا نقطة ارتكاز أساسية للتواجد الروسي في المنطقة، حيث تتيح القواعد العسكرية الروسية في طرطوس وحميميم لموسكو، ضمان تواجدها البحري والجوي الدائم في شرق المتوسط.
بعد سقوط نظام بشار الأسد؛ يواجه التواجد الروسي في سوريا تحديات كبيرة؛ حيث إن شرعية وجود روسيا في البلاد كانت تستند إلى التحالف مع النظام السوري؛ ومن ثم فإن سقوط الأسد يؤدي إلى تغييرات جذرية في المشهد السياسي السوري، ما قد يجعل من الصعب على روسيا الاحتفاظ بقواعدها العسكرية بنفس السهولة التي كانت تتمتع بها في ظل وجود بشار الأسد في السلطة.
وهنا، يمكن الإشارة إلى اثنين من المشاهد المستقبلية المحتملة:
المشهد الأول، في حال استمرار الوضع الحالي على ما هو عليه، أي استمرار سيطرة ميليشيات “هيئة تحرير الشام” على الأوضاع في سوريا، ما عدا المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، الكردية؛ يبدو أن “المعارضة” السورية، التي دعمتها عدة دول غربية وعربية خلال الحرب، لا تنظر بعين الرضا إلى التدخل الروسي الذي ساهم في إطالة أمد الصراع وإنقاذ النظام. في هذا المشهد، قد تواجه روسيا ضغوطا كبيرة من الحكومة الجديدة لإنهاء وجودها العسكري أو على الأقل تقليصه. ومن المحتمل أن تحاول الحكومة الجديدة التقرب من الغرب، أو دول إقليمية مثل تركيا والسعودية، ما قد يقلل من النفوذ الروسي في سوريا.
المشهد الآخر، في حال لم تتمكن “هيئة تحرير الشام” من السيطرة الكاملة على سوريا، واستمرار الفوضى التي ستؤدي إلى تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ متعددة- قد تحتفظ روسيا ببعض تواجدها العسكري، ولكن هذا سيعتمد بشكل كبير على الوضع في المناطق التي توجد فيها القواعد الروسية. إذا سيطرت قوات موالية لروسيا على هذه المناطق، أو إذا توصلت إلى اتفاق مع الفصائل المسيطرة، فقد تظل روسيا قادرة على الاحتفاظ بقواعدها، وإن كان ذلك في ظل ظروف أمنية وسياسية أكثر تعقيدا.
مع سقوط نظام الأسد، ستصبح القواعد العسكرية الروسية في طرطوس وحميميم محورا للتفاوض، أو الصراع، بين القوى المتنافسة في سوريا. وكما يبدو فإن مستقبل هذه القواعد يعتمد على عدة عوامل، منها الموقف الدولي والإقليمي من روسيا، والعلاقات بين موسكو والنظام الجديد أو الفصائل المسيطرة، وكذلك قدرة روسيا على حماية مصالحها العسكرية والاقتصادية في سوريا.
بالنسبة إلى قاعدة طرطوس البحرية، هي الأهم بالنسبة لروسيا، حيث توفر لموسكو منفذا دائما على البحر المتوسط، ما يعزز قدرة الأسطول الروسي على التحرك بسهولة بين البحر الأسود والبحر المتوسط والمحيطات الأخرى.
مع سقوط نظام بشار الأسد، فإن بقاء روسيا في طرطوس سيعتمد على القدرة الروسية على التوصل إلى اتفاق مع أي حكومة جديدة في سوريا، أو على الأقل الحفاظ على استقرار المنطقة التي تقع فيها القاعدة. إذا تمكنت روسيا من تأمين اتفاقية طويلة الأمد مع الحكومة الجديدة، أو مع الفصائل المسيطرة في المنطقة، فقد تتمكن من الاحتفاظ بوجودها البحري.
ومع ذلك، قد تواجه موسكو مطالب بإعادة التفاوض على شروط استخدام القاعدة، أو حتى ضغوط لإنهاء وجودها بالكامل.
أما بالنسبة إلى قاعدة حميميم الجوية، فهي تتيح لروسيا تنفيذ عمليات جوية ومراقبة الممرات الجوية والبحرية في المنطقة، ما يعزز نفوذها العسكري والسياسي.
وكما يبدو، فإن قاعدة حميميم الجوية، التي أنشأتها روسيا بعد تدخلها العسكري في سوريا، قد تكون أكثر عرضة للتحديات بعد سقوط الأسد. فهذه القاعدة تقع في منطقة قريبة من مناطق المعارضة والقوات المدعومة من تركيا، مما قد يجعل من الصعب على روسيا الاحتفاظ بها، دون موافقة الجهات المسيطرة على الأرض. إذا ما تُوصِّلَ إلى تسوية سياسية شاملة في سوريا، فقد تضطر روسيا إلى إعادة النظر في وجودها العسكري في حميميم.
بصرف النظر عن المشهد الذي سيتحقق، فمن المتوقع أن تبذل روسيا كل ما في وسعها للاحتفاظ بتواجدها في البحر المتوسط، حيث إن هذا الوجود يعد جزءا من استراتيجيتها الأوسع لتعزيز نفوذها العالمي ومواجهة النفوذ الغربي. وربما تلجأ روسيا إلى استخدام قوتها الدبلوماسية والاقتصادية للحفاظ على بعض نفوذها في سوريا.
وأيًا يكن الأمر، ستعتمد مقدرة روسيا على الاحتفاظ بقواعدها العسكرية في سوريا، على قدرتها على التكيف مع التحولات السياسية في البلاد، والتوصل إلى اتفاقات مع القوى المحلية والدولية. وقد لا يكون الحفاظ على التواجد الروسي في سوريا سهلا، لكنه سيظل هدفا استراتيجيا لموسكو.
وهكذا.. فإن سقوط نظام الأسد له تداعيات كبيرة على التواجد الروسي في البحر المتوسط، خاصة فيما يتعلق بمستقبل القواعد العسكرية في طرطوس وحميميم. وبالرغم من التحديات المحتملة، فإن روسيا ستسعى بكل جهدها للحفاظ على وجودها العسكري في سوريا، حيث يمثل هذا التواجد جزءا من استراتيجيتها الجيوسياسية في مواجهة القوى الغربية، وتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط.
ومن الواضح، أن قدرة موسكو على تحقيق هذا الهدف، سوف تعتمد على تطورات المشهد السياسي في سوريا، وعلى قدرتها على التعامل مع التحديات الإقليمية والدولية التي سوف تنشأ في الأيام والأسابيع المقبلة.