رؤى

تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر”.. ودلالة “العمل الإنساني”!

في البحث حول ملامح مفهوم “التسخير” في كتاب الله الكريم، وصلنا إلى أن هناك ارتباط بين سنن التسخير وسنن الخلق، في آيات التنزيل الحكيم؛ لذا يُصبح من الضروري التأكد من أن تسخير الكون، أي تسخير “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، إنما كان للإنسان لأجل وجوده؛ بما يعني أن الكون قد بُني بالقدرة الإلهية على قوانين (سنن) كمية وكيفية تناسب تماما الكيان الإنساني في وجوده ابتداء؛ فكأنما الكون قد صُنع لاستقبال الإنسان.

أما عن تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر” وارتباط تسخيرهما بـ “أَجَلٍ مُسَمًّى”.. فقد وصلنا إلى أن هذا الارتباط، وإن كان يأتي في “أربعة” مواضع في آيات التنزيل الحكيم؛ إلا أنه يأتي في “واحد” من هذه المواضع مصحوبًا بحرف الجر “إلى” في حين يأتي في المواضع “الثلاثة” الأخرى مصحوبًا بحرف الجر “اللام”.. وهو ما يُثير تساؤلات متعددة؛ أهمها: ما يتعلق بالاختلافات، من حيث الدلالة بين الحرفين، ودلالة دخول كل منهما على الاصطلاح القرآني “أَجَلٍ مُسَمًّى”، في المواضع التي أشير إليها؛ وغير ذلك من تساؤلات.

العمل الإنساني

في الموضع الأول “إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، يقول سبحانه وتعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” [لقمان: 29]. وهنا لنا أن نؤكد على الملاحظات “الثلاث” التي أوردناها في حديثنا السابق “تسخير الشمس والقمر.. ودلالة الأزمنة القرآنية”، وهي: الحركة الثلاثية في العطف، الوارد في سياق الآية الكريمة: “يُولِجُ… وَيُولِجُ… وَسَخَّرَ”؛ ثم: ورود “يُولِجُ” في زمن الفعل المُضارع، في حين يرد “سَخَّرَ” في زمن الفعل الماضي؛ وأخيرًا: إن الله تعالى يقول، في هذه الآية: “وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ”، ولم يقل: “وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ”.. وهنا، لنا أن نضيف الملاحظة الرابعة..

إنها تلك التي تتعلق بختام الآية الكريمة، نعني قوله سبحانه: “وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ”؛ إذ، يبدو بوضوح أن “عمل الإنسان” قد ورد، في سياق الآية، متقدمًا على “الخبرة الإلهية”. وهذه الصياغة الإلهية، ترد مرات كثيرة عندما يكون الحديث عن عمل الإنسان؛ حيث إن تصدير الآية الكريمة قد جاء بـ”أَلَمْ تَرَ” ثم حرف التوكيد “أَنَّ”؛ بما يؤشر إلى الأمر الإلهي في تأمل وتدبر هذه “الآيات” الإلهية في الكون عبر “الرؤية” الاستدلالية للإنسان كـ”عمل”.

ولعل هذا يتأكد، في قوله سبحانه وتعالى: “إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” [البقرة: 271]؛ وأيضًا، في قوله سبحانه: “فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” [التغابن: 8]. وكما هو واضح، من سياق الآيات الكريمة، أن الحديث عن “عمل إنساني”، ولذلك ورد متقدما على “الخبرة الإلهية”. تماما، كما في قوله تعالى: “وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا” [الأحزاب: 2].

أما في حال كان الحديث عن الله سبحانه وتعالى، أو ما يختص بالمسائل الإيمانية عمومًا والتقوى بشكل خاص، ترد “الخبرة الإلهية” متقدمة على “عمل الإنسان”؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “يَاَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” [الحشر: 18]؛ وأيضًا، كما في قوله سبحانه: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” [المائدة: 8]. 

وكما هو واضح، من سياق الآيات الكريمة، أن سياق الحديث عن “التقوى”، من حيث إنه سبحانه وتعالى “هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى”، كما في قوله سبحانه: “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى” [النجم: 32]؛ تأتي فيه الخبرة الإلهية” متقدمة على “عمل الإنسان”؛ تمامًا، مثلما يكون الحديث عن الله عزَّ وجل، كما في قوله تعالى: “وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” [المنافقون: 11].

الأجل المُسمى

بقيت ملاحظة، في الموضع الأول “إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، تتعلق بسياق الآية الكريمة [لقمان: 29].. يقول جلَّ جلاله: “مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ٭ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ٭ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ” [لقمان: 28-30].

ففي سياق الآيات الكريمة، يتبدى بوضوح أن “إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، يأتي في سياق يبدأ بقوله سبحانه: “لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” [لقمان: 26]؛ ويستمر إلى أن يصل إلى قوله تعالى: “… وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” [لقمان: 34]. وفي ما بينهما، يأتي ذكر اثنتين من الدوال على غاية ما ينتهي إليه “الخلق”. 

الدالة الأولى، هي قوله سبحانه: “مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ…” [لقمان: 28]؛ أما الثانية، فهي قوله تعالى: “يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا…” [لقمان: 33].. والمُلاحظ أن “إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى” [لقمان 29]، ترد بين هاتين الدالتين. وبالتالي، فإن “إِلَى”، في مثل هذا السياق، تؤشر إلى المصير وتدل على الانتهاء. وهو ما يعني، أن: “وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، تدل على أن كل من الشمس والقمر سيظل جاريًا، حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المُسمى له.

فإذا كان التسخير، هو: “جريان الأشياء والظواهر على عادة مضطردة، بطريقة معروفة أو تمكن معرفتها”؛ لذا، يمكننا القول بأن الأجل، هو: المدة المضروبة للشيء؛ والمُسمى: المحدد؛ ومن ثم، فـ”الأجل المُسمى”: هو “المدة المُحددة للشيء أو الظاهرة في حركتها من الماضي إلى المستقبل”.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock