سيظل النجم الراحل نور الشريف، واحدا من أهم فناني مصر والعالم العربي، ونموذجا يحتذى.. في ثقافته وإخلاصه للفن ودعمه الدائم له، فقد كان مؤسسة سينمائية متكاملة؛ تستحق الدراسة والتأمل.. خاصةً أنه كان يعلم جيدا كيف يختار أعماله، التي انحاز في أغلبها لقضية العدالة الاجتماعية، ولأبناء الطبقة المتوسطة، حمل همومهم وناقش قضاياهم وخاض حروبهم.
في كتاب “نور الشريف.. قراءة في مشوار الأستاذ” الصادر حديثا عن دار “نفرتيتي” وضع الكاتب الصحفي والناقد الفني جمال عبد القادر – مؤلف الكتاب- يديه على نقاط مهمة في مشوار نور الشريف، مثل المدرسة التمثيلية التي ينتمي لها، بالإضافة إلى علاقته بالسلطة في مصر، مسلطا الضوء على أزماته مع الرقابة على المصنفات، مرورا بإلقاء الضوء على علاقته بأديب نوبل الكاتب الكبير نجيب محفوظ.
بدأ جمال عبد القادر كتابه، بنشأة محمد جابر محمد عبد الله الذي أصبح نور الشريف بعد اختياره اسمه فنيا له من قبل شقيقته عواطف، وكيف تأثر بخاله شعيب الذي كان يكتب ويُخرج مسرحيات لأبناء الحارة في حي السيدة زينب، ويقدمها على عربات الكارو!
مدرسة التمثيل المنتمي لها وتكنيك الأداء الخاص بنور اشريف، هو أحد الفصول المهمة في الكتاب، فقد استعان جمال عبد القادر في هذه الصفحات بكلمات نور الشريف نفسه، بالإضافة إلى عدد من المخرجين الذي تعاونوا معه علاوة على زملائه.
“نور الشريف كان دائم التحدث عن فلسفته في الأداء، حيث كان يقول إنه ضد الاندماج الكامل مع الشخصية، لأنه قد يتسبب في كوارث للممثلين، خاصةً لو كان بالمشهد عنف أو قتل، كما أنه مع تكرار تقديم شخصيات مختلفة والاندماج معها سيؤدي ذلك لخلل بالجهاز العصبي للفنان”.
كان نور الشريف ينحاز لفكرة التعايش مع الشخصية بنسبة كبيرة، لكن مع وجود عقل الفنان حاضرا ويقظا؛ حتى يسهل الخروج من الشخصية بعد الانتهاء من أداء الدور، وأيضا للتجاوب مع تعليمات المخرج وحركة الممثل أمام الكاميرا والإضاءة.. ولهذا كان النجم الراحل أقرب في أدائه لمدرسة “بريخت”، والتي تعتمد على وعي الممثل وعقله، وحضور شخصيته الحقيقية بجوار الشخصية الدرامية التي يجسدها.
“عن تكنيك نور في التمثيل ذكر الدكتور محمد عبد الهادي أستاذ التمثيل، أن الفنان الراحل كان يتميز بالذكاء الشديد والتحضير الجيد للشخصية والتدريب المستمر لتنمية أدواته، وكان يُركّز على منطقة الوعي بمعنى بقاء وعيه حاضرا بجوار الشخصية التي يؤديها ولا يندمج بشكل كلي”.
المخرج الكبير محمد ياسين تحدث عن نور الشريف الممثل قائلا: “كان نور دءوبا جدا، خاض رحلة خاصة لإدراك كل ما يتعلق بفن التمثيل، وكل ما يحيط بالممثل، كما خاض رحلة خاصة جدا؛ لتشكيل وعيه كإنسان مثقف.. رحلة تُعينه في مسار حياته”.
لماذا فشل نور الشريف مخرجا؟
تطرّق الكتاب إلى سبب فشل نور الشريف في العمل مخرجا، وذلك عندما أخرج فيلم “العاشقان” عام 2001، وشاركته البطولة زوجته الفنانة بوسي، لكن للأسف هذه التجربة لم تحقق النجاح المرجو.
عن سبب فشل نور الشريف المخرج يقول مؤلف الكتاب: “اعتقد نور الشريف أنه بالخبرة، ومن خلال تعامله مع كبار مخرجي السينما المصرية، ومعرفته بكل تفاصيل تكنيك الإخراج وزوايا الكاميرا والإضاءة والديكور وكل تفاصيل عملية الإخراج- اكتسب خبرة تُمكّنه من ممارسة الإخراج والنجاح فيه؛ كما نجح في التمثيل. ولكن الأمر مختلف، فبجانب دراسة ومعرفة تكنيك الإخراج والخبرات المكتسبة، هناك موهبة ورؤية فنية ووجهة نظر، وهي لا تكتسب بالخبرة ولا بالتعلم ولهذا كانت تجربة غير ناجحة.
حروب نور الشريف مع السلطة
من النقاط الشائكة التي تطرّق لها جمال عبد القادر في كتابه- الحروب التي خاضها النجم الراحل، من أجل الفن سواء مع الرقابة على المصنفات الفنية، أو مع السلطة بشكل عام.
أصعب المشكلات التي واجهت الشريف، خلال مشواره الفني- أزمة فيلمه “ناجي العلي” والتي واجه فيها الرقابة على المصنفات، والصحافة العربية والسلطة الحاكمة في أكثر من دولة، خاصة أنه كان البطل والمنتج، ولم يتوقع أكثر المتشائمين؛ ما تعرض له النجم الراحل بعد عرض الفيلم، خاصةً أنه اتهم في وطنيته وانتمائه لمصر.
قاد الصحفي إبراهيم سعدة هذه الحملة، على نور والفيلم. بدأت الحملة باتهامه بإهانة مصر، والتطاول على الرئيس السادات، والحصول على تمويل من منظمة فتح الفلسطينية؛ لإهانة مصر والدول العربية.
تعرّض نور الشريف لأزمة أخرى، مع نجاح فيلم “الكرنك”. حيث زاد الهجوم عليه وعلى صناع الفيلم، من الكتاب والنقاد المنتمين للتيار الناصري، رغم أن نور كان ناصريا قوميا، وكان دائما ما يصرح بذلك، إلا أن هذا لم يمنع من الهجوم عليه، وأنه كان جزءا من حملة تشويه ناصر وعصره، تلك الحملة التي قادها السادات بنفسه!
علاقة النجم الراحل بأديب نوبل الكاتب الكبير نجيب محفوظ- من الأجزاء المهمة التي سلط الكتاب عليها الضوء؛ خاصةً أن نور كانت تجمعه علاقة خاصة بأديب نوبل، ليست فقط علاقة تأثر بكتابات هذا الكاتب الكبير، التي أرّخت لمجتمع كامل بكل تفاصيله وسماته وكشفت همومه وقضاياه لكن العلاقة كانت أقوى من ذلك بكثير.
نور الشريف كان حريصا على التواجد -بقدر الإمكان- بجوار نجيب محفوظ؛ يحضر جلساته ومناقشاته، ينهل من فيض إبداعه وثقافته، خاصةً أن هناك ثمة تشابه بين الاثنين رصدها الكاتب من حيث المستوى الاجتماعي والسياسي.
نور ومحفوظ كانت نشأتهما في حي شعبي، الأول من حي السيدة زينب، أما محفوظ فمن الجمالية، وهو ما جعل ارتباطهما أمرا حتميا، مع وضوح التأثر بتلك النشأة، كما ظهر عشقهما لكل ما هو قديم وتاريخي، وأيضا ظهر عشقهما للصوفية، وتأثرهما بها وبالأولياء.
نجيب محفوظ كان عاشقا للحسين.. وكذلك نور.. حيث تمنّى أن يقدم مسرحية “الحسين ثائرا” كما تمنّى تقديم سيرة أبي الحسن الشاذلي، وفي آخر عمل درامي له قدمه عن أبي الحسن الشاذلي “خلف الله” والذي كان به الكثير من الصوفية التي عاش نور ومحفوظ مولعين بها.
أما على المستوى السياسي فقد تأثر كل منهما بثورة في طفولته، كان لها دور كبير في تكوين كل منهما منذ الصغر، وقد تأثرا بالحدث سلبا أو إيجابا، تأثر محفوظ بثورة 1919 التي قامت وهو في الثامنة وعاش متيما بها، وظهر ذلك في الثلاثية، أما نور فكان عاشقا لثورة يوليو التي قامت وهو في السادسة، فعايشها منذ البداية واعتنق أفكارها.
الكتاب بمثابة قراءة وتحليل في مشوار النجم الراحل، سلّط الضوء على بعض المحطات المهمة في طريقه، وهو هدية للجيل الجديد من الممثلين؛ ليحذوا حذوه ويدرسوا كيف سار وكيف وصل، كيف فكر ونفذ، كيف اجتهد وطور من نفسه حتى أصبح نور الشريف الذي نعرفه الآن.