مختارات

ولادة نظام دولي جديد.. قد تحتاج إلى نصف قرن

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن عمان

حسين عبد الغني

 

 

 

 

تؤكد المعالجة الصينية الحذرة للاستفزاز الأمريكي الصريح في أزمة تايوان الحالية على تفوق «حكمة» أولاد كونفوشيوس وصن تزو على «حكمة» أولاد بطرس الأكبر وجوكوف في تجنب مواجهة مبكرة مع الأسد الأمريكي الإمبراطوري الجريح الذي يكون ككل ملوك الغابة أكثر ما يكون شراسة وهو جريح.

لكنها تؤكد أيضا على فهم صيني للتاريخ وخبراته ومآل إمبراطورياته بزوغا وأفولا يفضي إلى استنتاج أساسي ألا وهو أن إنهاء الهيمنة الغربية الأمريكية على العالم والنظام الدولي المستمر منذ الكشوف الجغرافية واختراع البخار والمدفع الحديث والثورتين الصناعية الأولى والثانية لن ينتهي أبدا في يوم وليلة.

قبل أقل من ستة أشهر تقريبا كتبت في هذه المساحة بجريدة «عمان» الغراء وبعد فترة قصيرة على اندلاع الحرب الأوكرانية بالحرف الواحد: «نحن أمام ولادة عسيرة وبطيئة لنظام دولي جديد يقاومه بكل شراسة نظام قديم ما زال يمتلك ميزات نسبية على القوى الصاعدة المزاحمة وليست لديه أي ذرة من تردد في استخدام كل قواه الخشنة والناعمة لإجهاض هذه الولادة».

الحرب الأوكرانية

وأعود اليوم لأجد في تطورات الأزمة الصينية / الأمريكية حول تايوان وفي مسار الصراع العسكري المتأرجح غير الحاسم zigzag للحرب الروسية – الأوكرانية أدلة جديدة وأكثر وضوحا على أن الأجيال الحالية من البشرية ستعاني وربما لفترة قد تمتد إلى حوالي نصف قرن قادمة في كل شؤون حياتها معاناة قاسية حتى ينتهي هذا المخاض المؤلم ويولد النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب بشكل رسمي ويبني قواعده الخاصة في العلاقات بين الدول، وبين المركز والأطراف.

كما سبق وفعل النظام الدولي الحالي في القرن العشرين في مراحل ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وهو النظام الذي يقاوم الآن في القرن الواحد والعشرين كل محاولات تغييره وبالتالي تغيير القواعد والمؤسسات المنبثقة عنه.

قد يلاحظ القارئ وعنده كل الحق أننا جمعنا بين نظم متعددة للعلاقات الدولية، شملت هذه المرحلة الطويلة بين 1914 اندلاع الحرب العظمى الأولى و1991 عام سقوط الاتحاد السوفييتي. ولكن حقيقة الأمر هو أن النظام السياسي الدولي الراهن الذي اتفق مع كثير من المحللين في أن بذرته ولدت بعد اتفاقية صلح وستفاليا 1648 لم يتغير في جوهره العميق وهو أنه امتداد لهيمنة الغرب ونصف الكرة الغربي على باقي العالم منذ نحو 4 قرون.

سقوط الإتحاد السوفيتي
سقوط الإتحاد السوفيتي

سمحت هذه الفترة غير المسبوقة في التاريخ المكتوب من حيث الطول الزمني في الهيمنة الإمبراطورية لإحدى الحضارات على باقي العالم في خلق آليات للسيطرة تسعى للإبقاء على هذا الهيمنة وعرقلة كل مقاومة شاملة أو جزئية للتخلص من قبضتها الخانقة على الآخرين.

وهي آليات سمح الجذر الغربي والأنجلو – سكسوني خصوصا لأمريكا بتوارث آليات الهيمنة الأوروبية الاستعمارية وتطويرها والتكيف والتلون معها بما يتسق مع تكنولوجيا العصر ومستوى وعي الشعوب بحقوقها فتحولنا شكليا من الاستعمار المباشر للاستعمار الجديد ومن آليات السيطرة المباشرة إلى الهيمنة على الحكومات الوطنية والمحلية ومن الاستحواذ على كل النهب الاقتصادي إلى مشاركة طبقات محلية في جزء محدود منها الخ.

لقد تم التوصل بعد فظائع الحرب العالمية الثانية إلى قاعدة تمنع أن تتحول المنافسة بين الدول الرأسمالية الغربية وبعضها البعض إلى عداء عسكري عندما تتغير مراكز ثقلها الدولية أو تتواجه مصالحها الاقتصادية المتنافسة على أسواق وموارد العالم الثالث.

الحرب العالمية الثانية
الحرب العالمية الثانية

المثال الأبرز في هذا المجال هو استيعاب الإمبراطورية الأمريكية للإمبراطورية البريطانية أكبر امبراطورية في المساحة عرفها التاريخ عندما تراجعت الأخيرة لتصبح قوة دولية من الدرجة الثانية بعد حرب السويس 1956.

الاستعمار الأوروبي الطويل للصين ومناطق عدة من آسيا والذي ورثت نفوذه وزادت عليه أمريكا المهيمنة على المحيط الهادئ لم يكتف بهندسة الخرائط وإعادة رسم حدود الدول المستعمرة بل قام بالتدخل في هندسة المجتمعات المحلية ونسيجها الوطني بوضع بذور صراعات إثنية وطائفية ودينية لا تحصى.

سنأخذ هنا الصين كمثال على آليات الهيمنة الغربية المخيفة التي تقيد مقاومة الحكومات غير الغربية الراغبة في التحرر منها وأخذ ما تستحقه من مكانة ودور في تسيير شؤون العالم. والمثال هنا أكثر من كاشف لأننا لا نتكلم عن دول العالم الثالث الفقيرة المكبلة أقدامها وأياديها بأغلال صندوق النقد الدولي والمعونات الغربية ولكن نتكلم عن أكبر ثاني أقتصاد في العالم (نحو 20% من الاقتصاد الدولي)، والدولة الأولى في الكرة الأرضية من حيث عدد السكان وربما الأولى أيضا -من حيث نسبة الإنفاق- المرشحة لقيادة الثورة الصناعية العالمية الرابعة وهي ثورة الذكاء الاصطناعي والروبوتات.. الخ.

ترك الغرب للصين صراعات داخلية مع التيبت ومع أقليات دينية مثل «الإيجور» وهدد وحدة الصين الإقليمية وسيادتها على أراضيها وجزرها ولا يزال كما هو الحال من أزمة تايوان الأخيرة التي ومن صداع عدم الاستقرار السياسي المستمر في هونج كونج وتمردها الدائم على سلطة بكين.

معاناة مسلمي الإيجور
معاناة مسلمي الإيجور

على المستوى الإقليمي لم تدخر الهيمنة الغربية وسيلة لإبقاء الصراعات الحدودية والحضارية بين العملاقين الصيني والهندي مشتعلة تحت الرماد تارة وحروب فعلية تارة أخرى، وحولت النزاعات الإقليمية على بحر الصين الجنوبي إلى توترات مريرة دائمة بين الصين وجملة من الدول منها الفلبين وفيتنام، وجندت أمريكا اليابان وأستراليا في تحالفات خطتها الاستراتيجية الرامية لحصار التنين الصيني في المحيط الهادي.

هذه نزاعات معقدة ومتشابكة ومكلفة وتحمل في داخلها كل مواريث الصراعات بين الجيران وكل تشجيع الغرب لإبقائها مشتعلة، وكان على الرئيس الصيني شي بينج وهو يواجه أزمة تايوان الأخيرة أن يحسب كل خطوة فيها حسابا دقيقا لا يحتمل ذرة من الخطأ.

على المستوى الاقتصادي رأت الصين أيضا أنها غير جاهزة للدخول في مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة، إذ تعتبر الصادرات الصينية إلى أمريكا أحد أهم محركات النمو الاقتصادي الإعجازي الذي حققته بكين في العقود الأربعة الأخيرة إذ يزيد عن 25% من إجمالي الصادرات الصينية للعالم، ولقد تضاعف التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 300 مرة منذ عام 1980 ويصل ميزان التبادل التجاري السنوي إلى نحو 800 مليار دولار.

وحتى تنتهي الصين من إكمال مشروعها العبقري لتحرير التجارة الدولية بعيدا عن هيمنة واشنطن المعروف باسم طريق الحزام الذي يعد الصورة العصرية لطريق الحرير القديم وتستطيع إيجاد بدائل للسوق الأمريكية الواسعة فهي ليست في وارد الدخول في مواجهة استراتيجية مع أمريكا.

مبادرة الحزام والطريق
مبادرة الحزام والطريق

هذه المواجهة قد تكلفها تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني الذي تباطأ أصلا مثل غيره من اقتصادات الدول بجائحة كورونا وبالحرب الأوكرانية وتعثر سلاسل الإمداد. اتبع الصينيون في أزمة تايوان الأخيرة حكمة مفكرهم العسكري القديم صن تزو «الدولة لا ينبغي أن تبدأ حربا بغضب بل تتخذ فقط الإجراءات التي تحمي مصالحها».

تحملوا بصبر مرارة سخرية الدعاية الغربية أن تهديداتها ترسو عادة على صفر كبير وتحملوا خيبة أمل الصينيين في الداخل الذين توقعوا إسقاط طائرة بيلوسي أو انتهاز المبرر الذي خلقته زيارتها لإعادة جزيرة تايوان إلى البر الصيني.

باختصار كانت بكين تعلم أن البديل هو حرب عالمية ثالثة مع أمريكا التي ستقف عسكريا مع تايوان ضد أي عمل عسكري صيني.

قررت بكين ابتلاع كرامتها على أن تعطي لواشنطن الأقوى عسكريا في الوقت الراهن -كما فعلت مع الروس- الفرصة لاستدراجها أو إجبارها على الدخول في حرب يحدد الخصم موعدها ونطاقها ومن شأن وقوعها في فخ المخاطرة باستنزاف بل واعتصار كل ثمار معجزتها الاقتصادية التي هي القاعدة التي تؤسس مطلبها العادل بالمشاركة في قيادة العالم وإنهاء السيطرة المزمنة منذ القرن الـ17 لأقلية «المليار الذهبي» البيضاء على غالبية البشر من الصفر والسود والملونين ذي السبعة مليارات من السكان.

وما زالت المعوقات الأخرى لولادة يسيرة وسريعة للنظام الدولي الجديد تستحق حديثا إضافيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock