تعتبر الأحداث التي شهدتها كل من ليبيا وسوريا، منذ بدايات ما أُطلق عليه “الربيع العربي” عام 2011، من بين أكثر الفصول دموية وتعقيدا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا؛ شكّلا نقطتين محوريتين في إعادة تشكيل الوضع الإقليمي والدولي، في المنطقة العربية.
ورغم أن الدولتين شهدتا انهيارا للنظام الحاكم؛ إلا أن تداعيات هذا السقوط جاءت بمسارات متباينة وأوجه تشابه متعددة. وسنحاول هنا.. استكشاف الفوارق والتشابهات بين هاتين الحالتين، من خلال عدد من الزوايا التحليلية.
في الحالة الليبية، حكم معمر القذافي ليبيا لأكثر من أربعة عقود (1969-2011) وذلك بنظام سياسي فريد من نوعه، كان يُعرف بالجماهيرية.. نظام قائم على الفردية المطلقة وسيطرة أجهزة الأمن والجيش، وسط توترات داخلية وخارجية.
وقد أدت احتجاجات فبراير 2011 في ليبيا، إلى صراع مسلح، نتج عنه سقوط نظام القذافي، بعد تدخل التحالف الدولي بقيادة حلف الناتو؛ إذ كان التدخل الأجنبي حاسما في الإطاحة بالقذافي، ولم تستطع المعارضة المسلحة إسقاط النظام بمفردها.
بعد سقوط القذافي، دخلت ليبيا في حالة من الفوضى السياسية والعسكرية؛ إذ انهارت مؤسسات الدولة، وظهرت ميليشيات مسلحة تتنازع السيطرة على البلاد، ما أدى إلى تقسيم فعلي للسلطة بين جهات متناحرة، بين شرق ليبيا وغربها. وساهم الفشل في إقامة حكومة مركزية موحدة – بعد سقوط القذافي- في استمرار الأزمة، والانقسام السياسي طوال سنوات.
أما الحالة السورية.. فقد حكم بشار الأسد، الذي ورث الحكم عن والده في عام 2000، سورية بنظام شمولي يعتمد على الحزب الواحد (حزب البعث)، مع دعم من الأجهزة الأمنية والعسكرية؛ وقد حافظ نظام الأسد على سياسة القمع الشديد ضد المعارضة، من خلال الأجهزة الأمنية.
والملاحظ، أن سورية كانت قد شهدت احتجاجات شعبية سلمية في البداية ضد النظام؛ لكن استخدام النظام للقوة المفرطة ضد المحتجين، أدى إلى تحويل الانتفاضة إلى حرب أهلية معقدة! في حالة سورية، لم يكن هناك تدخل عسكري دولي للإطاحة بالأسد، مثل ما حدث في ليبيا، بل شهدت سورية تدخلات دولية وإقليمية متعددة الأطراف، بشكل ربما أكثر تعقيدا من الحالة الليبية.
وعلى الرغم من أن النظام السوري شهد انتكاسات كبرى خلال الحرب الأهلية، إلا أن تدخّل روسيا وإيران ساهم في بقاء الأسد في الحكم لسنوات؛ لكن مع انهيار بعض المناطق وخروجها عن سيطرة الحكومة والنظام، تمكنت الميليشيات المسلحة، التي تتزعمها “جبهة تحرير الشام”، المنتمية في الأصل إلى تنظيم القاعدة، وبمساعدة إقليمية ودولية، من إسقاط النظام والدخول إلى العاصمة دمشق.
في الحالة الليبية، كان العامل الدولي حاسما في إسقاط نظام معمر القذافي. مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في بنغازي عام 2011، وتصاعدها إلى تمرد مسلح ضد النظام، كان تدخل المجتمع الدولي في إطار الأمم المتحدة، ودعم حلف شمال الأطلسي (ناتو) قرارا محوريا في إسقاط القذافي.
– قرار مجلس الأمن رقم “1973” في مارس 2011، أصدر مجلس الأمن الدولي قرارا بفرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا لحماية المدنيين؛ وقد سمح هذا القرار بتدخل عسكري بقيادة “ناتو” لتنفيذ الغارات الجوية ضد قوات الجيش الليبي.
– أيضا الدعم الغربي بقيادة فرنسا وإيطاليا وبريطانيا؛ التي تحركت قواتهم بدافع المصالح النفطية والإستراتيجية في ليبيا؛ أما الولايات المتحدة فقد لعبت دورا مُهمّا في توجيه العمليات العسكرية، رغم تبنيها موقفا داعما من الخلف.
– إضافة إلى العامل الاقتصادي؛ حيث تسيطر ليبيا على احتياطيات نفطية كبيرة، جعلتها هدفا للتدخل الغربي؛ إذ إن تأمين وصول النفط الليبي للأسواق الدولية – بعد سقوط القذافي- كان دافعا للتدخل العسكري.
أما الحالة السورية، فقد شهدت مسارا مختلفا تماما، رغم الانتفاضة الشعبية التي اندلعت عام 2011، وتحولت لاحقا إلى حرب أهلية؛ حيث لعبت الأبعاد الإقليمية والدولية في سوريا دورا حاسما في بقاء النظام وعدم سقوطه طوال سنوات.
– الدعم الروسي؛ كانت روسيا الحليف الدولي الأبرز لبشار الأسد، حيث تدخلت عسكريا بشكل مباشر في سبتمبر 2015، ما أعطى النظام السوري دفعة قوية. الدعم الروسي تضمّن توفير الأسلحة، وتنفيذ الغارات الجوية، وشن حملات برية بالتعاون مع القوات السورية. روسيا اعتبرت سوريا ركيزة لاستراتيجيتها في الشرق الأوسط وقاعدة عسكرية هامة في المتوسط.
– الدعم الإيراني: دعمت إيران النظام السوري، عبر الحرس الثوري الإيراني، فضلا عن حزب الله اللبناني؛ حيث إن إيران رأت في سوريا حليفا استراتيجيا ضمن محور المقاومة الممتد من طهران إلى البحر المتوسط.
– التدخل الإقليمي المعقد: شهدت سوريا تدخلات إقليمية معقدة من دول مثل تركيا، التي دعمت المعارضة المسلحة، والسعودية وقطر اللتين قدمتا الدعم للمعارضة. ومع ذلك، لم يكن التدخل الإقليمي كافيا لإسقاط النظام؛ بسبب قوة الدعم الذي تلقاه من روسيا وإيران.
– إسقاط النظام؛ لم يكن إسقاط نظام الأسد في سوريا، في خلال أقل من أسبوع، مسألة صدفة أو مفاجأة.. إذ إن التدخل الأمريكي والتركي ساهما في سيطرة الميليشيات المسلحة على معظم أرجاء سوريا، ودخول دمشق دون مقاومة؛ بعد أن “سَرَّحَ” بشار الجيش السوري، في واقعة لا يمكن وصفها إلا بالخيانة، من جانبه وجانب القيادات الكبرى، في ما كان يسمى الجيش السوري.
تتشابه -إذن- حالتا ليبيا وسوريا في أن كلا النظامين شهد انتفاضات شعبية، تحوَّلت إلى صراعات معقدة، إلا أن الاختلاف الأكبر يكمن في مسار الأحداث والتدخلات الدولية. ففي حين سقط نظام القذافي بفعل التدخل الدولي، استطاع نظام الأسد الصمود -إلى حين- بفضل الدعم الروسي والإيراني. كلا البلدين عانى في تداعيات إنسانية وإقليمية خطيرة، ولا يزال الاستقرار بعيد المنال.
والملاحظ، أن تدخل حلف شمال الأطلنطي في ليبيا كان عاملا حاسما في إسقاط نظام القذافي؛ وكان هذا التدخل مدفوعا بالمصالح الأوروبية، خاصة فرنسا وإيطاليا، فضلا عن بريطانيا، التي سعت إلى تأمين مصالحها النفطية والاستراتيجية. أما سورية فقد شهدت تدخلا معقدا أكثر من ليبيا، حيث تدخلت قوى إقليمية ودولية مثل روسيا، إيران، وتركيا لدعم النظام أو المعارضة. كانت هذه التدخلات جزءا من لعبة النفوذ بين القوى العظمى في الشرق الأوسط، التي سوف تستمر ما بعد سقوط نظام الأسد.