الاتفاق الذي رعته تركيا بين الصومال وإثيوبيا، والذي أُطلق عليه “إعلان أنقرة” في 11 ديسمبر 2024، يمثل حدثا جيوسياسيًا بالغ الأهمية في منطقة القرن الإفريقي، التي تعدّ واحدة من أكثر المناطق تعقيدا وصراعا في العالم. يُعزى هذا إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي، وقربها من ممرات التجارة الدولية الهامة، بالإضافة إلى التنافس الدولي والإقليمي على النفوذ فيها.
وهنا، يتمثل التساؤل المطروح، في: ما الأهمية الجيوسياسية لهذا الاتفاق؟، وما الاحتمالات المستقبلية التي قد تترتب عليه؟.. فضلا عن التساؤل حول: مصالح الأطراف الثلاثة الرئيسية: تركيا، إثيوبيا، والصومال.
إعلان أنقرة
تتمثل الأهمية الجيوسياسية لإعلان أنقرة، في نقاط ثلاث هي:
– تعزيز النفوذ التركي في القرن الأفريقي؛ حيث تعدّ تركيا أحد الفاعلين الإقليميين الجدد في منطقة القرن الإفريقي، وتسعى بقوة لتعزيز حضورها في المنطقة من خلال أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية. ومن ثم، يلعب “إعلان أنقرة” دورا حاسما في توسيع هذا النفوذ، حيث يُظهر تركيا في صورة الوسيط القادر على حل النزاعات الإقليمية المستعصية. من خلال هذا الاتفاق، ترسخ تركيا صورتها بوصفها قوة فاعلة، في تحقيق الاستقرار والتنمية في القرن الإفريقي.
وكما يبدو، يمثل الاتفاق جزءا من استراتيجية أوسع لتركيا، تستهدف النفوذ في إفريقيا ككل، وليس فقط في القرن الإفريقي. على مر السنوات الماضية، أصبحت تركيا شريكا اقتصاديا وسياسيا قويا للعديد من الدول الإفريقية، وفتحت سفارات جديدة، وأطلقت مشاريع تنموية. كما أن لتركيا قاعدة عسكرية في الصومال، ما يتيح لها موطئ قدم استراتيجي؛ لتعزيز نفوذها العسكري والسياسي، في مداخل البحر الأحمر الجنوبية.
– دور إثيوبيا في الأمن الإقليمي؛ إثيوبيا هي دولة محورية في منطقة القرن الإفريقي؛ وبالتالي يوفر “إعلان أنقرة” لإثيوبيا فرصة لإعادة ترتيب علاقاتها مع جيرانها، وخصوصا مع الصومال، بعد فترة من التوترات التي شابت العلاقات الثنائية. من خلال الاتفاق، تستطيع إثيوبيا إعادة بناء شراكة قوية مع الصومال، بما يساعدها في مواجهة التحديات الأمنية المشتركة، مثل التهديدات التي تشكّلها حركة الشباب الإرهابية.
كما أن الاتفاق يعزز وضع إثيوبيا كقوة إقليمية قادرة على العمل بشكل فعال على المستوى الإقليمي. بل، إن هذا الاتفاق يأتي في سياق محاولة إثيوبيا مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، بعد الصراع في إقليم تيغراي؛ وبالتالي يتيح لها فرصة لإظهار قدرتها على التعافي وإعادة بسط نفوذها في المنطقة.
– الصومال وطموح بناء الدولة؛ إذ يعاني الصومال منذ سنوات من عدم الاستقرار، لكنه يسعى الآن لتحقيق نهضة سياسية واقتصادية. بالنسبة للصومال يمثل “إعلان أنقرة” فرصة لتعزيز سيادة الدولة وإظهار قدرتها على التفاوض وحل النزاعات مع جيرانها، وخصوصا إثيوبيا؛ بما يعني أن التعاون الوثيق مع تركيا يعزز جهود الحكومة الصومالية، لبناء مؤسسات الدولة وتحقيق التنمية الاقتصادية.
كما أن الاتفاق يسمح للصومال بتخفيف التوترات مع إثيوبيا، والتعاون معها في المجالات الأمنية والاقتصادية، ما يساعد على تعزيز الاستقرار الداخلي.
احتمالات مستقبلية
إذا استمرت الأطراف الموقعة في الالتزام بما اتفقَ عليه في “إعلان أنقرة”، قد يشهد القرن الإفريقي حقبة جديدة من التعاون الإقليمي. ويمكن أن يكون للاتفاق تأثير إيجابي على جهود التكامل الإقليمي، ما يساهم في تقوية العلاقات بين الدول المجاورة.
ولعل أهم الاحتمالات المتوقعة.. الثلاثة التالية:
– تزايد النفوذ التركي في المنطقة؛ فمن المتوقع أن تعزز تركيا مكانتها بوصفها لاعبا رئيسا في منطقة القرن الإفريقي؛ بفضل هذا الاتفاق. النفوذ التركي قد يتوسع ليشمل مجالات جديدة، مثل الاقتصاد والتعليم، فضلا عن التعاون الأمني والعسكري. وقد يؤدي ذلك إلى زيادة التنافس مع قوى أخرى تسعى لتحقيق نفوذ في المنطقة، مثل الإمارات العربية المتحدة والسعودية وقطر، ما يجعل القرن الإفريقي ساحة لصراع نفوذ بين عدة قوى إقليمية ودولية.
– العلاقات الصومالية الإثيوبية؛ يعدُّ تحسين العلاقات بين إثيوبيا والصومال أحد أبرز نتائج الاتفاق. إذا التزمت الدولتان بتطبيق البنود المتفق عليها، قد تشهد العلاقات الثنائية تطورا إيجابيا على عدة مستويات. وفي ما يبدو، فإن التعاون الأمني سيكون محورا أساسيا لهذا التحسن، حيث ستعمل الدولتان معا على محاربة التهديدات الإرهابية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية. كما قد يشهد التعاون الاقتصادي بين البلدين تقدما ملحوظا، حيث سيتجه البلدان نحو تحسين البنية التحتية الحدودية وتعزيز التجارة البينية.
– التحديات الأمنية المحتملة؛ على الرغم من التفاؤل بإمكانية تحقيق الاستقرار عبر “إعلان أنقرة”، إلا أن التحديات الأمنية تظل قائمة. فالمنطقة ما زالت تواجه تهديدات من الجماعات المسلحة، مثل حركة الشباب في الصومال، وكذلك الصراعات العرقية الداخلية في إثيوبيا. إذا لم تعالج هذه التحديات بشكل فعال، فقد تتفاقم التوترات الأمنية، ما يهدد تفعيل الاتفاق ويعرقل تحقيق أهدافه.
التأثر المصري
تأثير “إعلان أنقرة” بين الصومال وإثيوبيا على مصر، يبرز بشكل خاص في سياق التنافس الإقليمي على النفوذ في القرن الإفريقي، والتحديات المتعلقة بالملف المائي وأزمة سد النهضة. بل، يُنظر إلى الاتفاق على أنه يعزز العلاقات بين تركيا وإثيوبيا والصومال، وهو ما قد يؤثر بشكل غير مباشر، على مصالح مصر في المنطقة.
– الاتفاق والأمن المائي؛ من أبرز القضايا التي قد تتأثر بهذا الاتفاق هي قضية سد النهضة. مصر تنظر إلى إثيوبيا بوصفها طرفا رئيسا في هذا الملف، حيث يتسبب السد في قلق مصر؛ بشأن تناقص حصتها من مياه النيل. تعميق التعاون بين إثيوبيا وتركيا.. قد يعزز موقف إثيوبيا في المفاوضات المتعلقة بالسد، خصوصا وأن تركيا قد تقدم دعما تقنيا أو لوجستيا لإثيوبيا في مشروعاتها المائية. هذا قد يزيد من تعقيد الموقف المصري في النزاع حول السد، حيث تواجه مصر بالفعل تحديات كبيرة في هذا الملف.
– التعاون الأمني والتجاري؛ من الناحية الأمنية، قد يسهم الاتفاق في تعزيز التعاون بين الصومال وإثيوبيا لمواجهة التهديدات الإرهابية، وهو ما قد يكون إيجابيا لمصر، حيث تهدد الجماعات المسلحة استقرار المنطقة بأسرها. ومع ذلك، تعزيز العلاقات التجارية بين هذه الدول وتركيا قد يضع مصر أمام تحديات اقتصادية جديدة في منطقة البحر الأحمر.
– التنافس المصري التركي؛ توسيع النفوذ التركي في القرن الإفريقي -من خلال هذا الاتفاق- قد يؤثر على المصالح المصرية. تاريخيا.. كان هناك تنافس بين مصر وتركيا على التأثير في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي. ومع تصاعد دور تركيا وسيطا وقوة إقليمية، قد تجد مصر نفسها في موقف يتطلب إعادة تقييم استراتيجياتها الدبلوماسية والأمنية في المنطقة؛ لمواجهة هذا النفوذ المتزايد. هذا، رغم التقارب التركي مع مصر مؤخرا.
وهكذا.. يمكن القول بأن “إعلان أنقرة” يمثل نقطة تحول جيوسياسية مهمة في منطقة القرن الإفريقي، وذلك من منظور تداعياته، التي لن تتوقف عند حدود أطرافه؛ بل وهذا هو الأهم، مدى تأثيره على دول القرن الأفريقي وشمال شرق القارة.. أي مصر كدولة محورية في القارة، وفي شمال أفريقيا.