مع بداية العام الجديد 2025، شهدت مدينة الزاوية الليبية، سلسلة من الاشتباكات المسلحة العنيفة، بين مجموعات ميليشياوية محلية، ما أدى إلى تصاعد التوتر في المنطقة الغربية من البلاد. هذه الاشتباكات ليست مجرد ظاهرة عرضية؛ بل تعكس تحديات أعمق تواجه ليبيا، خاصةً في ظل الانتشار الواسع للميليشيات المسلحة، التي تسيطر على أجزاء كبيرة من المناطق الغربية، في العاصمة طرابلس والمدن المحيطة بها.
وتعتبر هذه الميليشيات عقبة رئيسة، أمام إمكانية التوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة الليبية؛ بل ويعكس استمرار هذه الظاهرة، تعقيد الأوضاع على الأرض وتفكك الدولة، وانقسامها سياسيا ما بين غرب ليبيا، وشرقها.
تُعد مدينة الزاوية إحدى المناطق الاستراتيجية في الغرب الليبي، بسبب قربها من العاصمة طرابلس ومن المراكز الاقتصادية الحيوية. وعلى مدى سنوات ما بعد الانتفاضة الليبية، أصبحت المدينة ساحة للصراعات، بين الميليشيات المسلحة المتنافسة على السلطة والموارد. وقد تفاقمت هذه الصراعات بشكل كبير في السنوات الأخيرة، نتيجة لغياب سلطة مركزية قوية قادرة على ضبط الأمور، واعتماد القوى السياسية المتنافسة على تلك المجموعات المسلحة لتحقيق أهدافها.
الاشتباكات التي اندلعت في الزاوية مطلع العام، تأتي في سياق تصاعد الصراع بين ميليشيات متنازعة على النفوذ في المنطقة الغربية، حيث تحاول كل مجموعة السيطرة على المواقع الحيوية مثل نقاط التفتيش، الموانئ، والطرق التجارية. هذه الميليشيات تستغل الفراغ الأمني والانقسامات السياسية؛ حيث يسعى كل طرف لزيادة موارده وضمان مصالحه في ظل الانهيار الأمني.
والواقع.. إن تأثير الاشتباكات المسلحة في الزاوية، يمتد إلى ما هو أبعد من المدينة نفسها، ليشمل كامل المنطقة الغربية التي تعاني من توترات أمنية مماثلة. الاشتباكات تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، وتؤثر على حركة النقل والتجارة؛ هذا بالإضافة إلى تعطيل إمدادات الطاقة والموارد الحيوية. كما أن هذه الأحداث تساهم في تعزيز شعور انعدام الأمان لدى السكان المحليين، ما يدفع المزيد من الليبيين إلى البحث عن طرق للهجرة خارج البلاد، سواءً عبر الهجرة غير الشرعية أو طلب اللجوء.
بشكل عام، يعرقل استمرار الاشتباكات المسلحة أي جهود لتوحيد الأجهزة الأمنية في البلاد، أو بناء جيش وطني موحد. فالمنطقة الغربية، التي تشتمل على العاصمة طرابلس، تُعتبر مركز السلطة السياسية والاقتصادية في ليبيا؛ وبالتالي.. فإن أي تصاعد في العنف داخل هذه المنطقة يؤثر بشكل مباشر على المسار السياسي العام للبلاد.
تُعد ظاهرة الميليشيات المسلحة في الغرب الليبي من أخطر العوامل، التي تعرقل إمكانية التوصل إلى حل سياسي شامل في ليبيا. هذه الميليشيات ليست مجرد جماعات مسلحة، بل تحولت إلى قوى سياسية واقتصادية تمتلك نفوذا كبيرا في إدارة المدن والمناطق التي تسيطر عليها.
إن ارتباط هذه المجموعات بالمصالح الاقتصادية والسياسية، يجعل من الصعب حلها أو دمجها في هياكل الدولة، دون مواجهة مقاومة شديدة.
– تقويض سلطة الدولة؛ فالميليشيات المسلحة تقوِّض سلطة الدولة الليبية على الأرض، حيث إن هذه المجموعات تسيطر على مناطق واسعة، ولا تلتزم بأي سلطة مركزية. بدلا من ذلك تقوم هذه الميليشيات بفرض نظامها الخاص وإدارة الموارد المحلية، بما يتناسب مع مصالحها. ونتيجة لذلك، تفقد الدولة الليبية القدرة على فرض القانون وبسط الأمن، ما يعرقل أي جهود لبناء دولة موحدة قادرة على السيطرة على كل أراضيها.
– عرقلة العملية السياسية؛ إذ إن وجود الميليشيات المسلحة يعرقل بشكل مباشر العملية السياسية. في كل مرة تُطرح فيها مبادرات سياسية، تهدف إلى التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة الليبية، تواجه هذه المبادرات عراقيل من الميليشيات التي تشعر بأن أي تسوية سياسية؛ قد تؤدي إلى فقدانها للنفوذ. على سبيل المثال، في كل مرة تتشكل حكومة أو تُطرح مبادرة دولية للحل، تحاول الميليشيات فرض نفسها، بوصفها جزءا من المعادلة السياسية من خلال القوة العسكرية، وهذا يقود إلى فشل الجهود السياسية.
– تعزيز الانقسامات الداخلية؛ فالميليشيات المسلحة في الغرب الليبي ليست كيانا واحدا، بل هي مجموعات متفرقة ومتنوعة تختلف في الولاءات والانتماءات، سواء على أساس قبلي أو أيديولوجي أو مصلحي. وهذه الانقسامات الداخلية تعزز من تعقيد المشهد، حيث إن كل ميليشيا تسعى إلى حماية مصالحها الخاصة، وتفرض شروطها في أي تسوية سياسية؛ ومن ثم يؤدي هذا إلى زيادة الفوضى وتقويض فرص الوصول إلى اتفاق شامل.
– المصالح الإقليمية والدولية؛ حيث تزداد تعقيدات الملف الليبي بسبب ارتباط بعض الميليشيات بمصالح قوى إقليمية ودولية. فالعديد من الميليشيات تتلقى دعما مباشرا أو غير مباشرٍ من قوى خارجية، تسعى لتحقيق أجنداتها في ليبيا. هذا التدخل الخارجي يزيد من تعقيد الحل السياسي، ويحول الصراع في ليبيا إلى ساحة تنافس دولي. فالقوى الخارجية تسعى إلى دعم ميليشيات معينة على حساب أخرى، ما يزيد من تأجيج الصراع، ويعرقل أي جهود للتوصل إلى تسوية داخلية مستقلة.
في ظل التعقيدات التي تفرضها الميليشيات المسلحة على الأرض، تبدو الحلول الممكنة لمشكلة هذه الميليشيات صعبة ومعقدة، لكنها ليست مستحيلة.. من أهم هذه الحلول:
– دمج الميليشيات في قوات أمنية وطنية تخضع لسلطة الدولة. هذا الحل يتطلب جهودا ضخمة في مجال التدريب والتأهيل وتوفير حوافز اقتصادية؛ لكنه يواجه تحديات كبيرة؛ نظرا لأن العديد من الميليشيات قد ترفض التخلي عن استقلالها العسكري والسياسي.
– تفكيك الميليشيات وتسريح أفرادها من خلال توفير برامج إعادة تأهيل ودمجهم في المجتمع المدني. وهذا الحل يتطلب موارد مالية ضخمة وجهودا كبيرة في توفير فرص العمل والتأهيل النفسي للأفراد الذين كانوا جزءا من هذه المجموعات المسلحة.
في هذا الإطار.. فإن الاشتباكات المسلحة في مدينة الزاوية، مع بداية عام 2025، تمثل تجسيدا للمشكلات العميقة التي تواجه ليبيا في ظل وجود الميليشيات المسلحة. تأثير هذه الاشتباكات يمتد إلى كل المنطقة الغربية، ويعرقل الجهود المبذولة للتوصل إلى حل سياسي شامل. وسيظل حل هذه المشكلة أحد أهم التحديات التي تواجه أي حكومة، أو مبادرة تسعى إلى إنهاء الصراع في البلاد.