ثقافة

مشاعل إسلامية (19) الجرجاني.. و”دلائل الإعجاز”

تأتي أهمية الجرجاني، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن (ت 471 هـ) الأديب النحوي والفقيه الشافعي والمتكلم الأشعري، من ضخامة المهمة التي حاول الاضطلاع بها.. ليس فقط في كتابه “أسرار البلاغة” ولكن أيضا من خال كتابه “دلائل الإعجاز”.

وفي ما يبدو، فقد كان عبد القاهر الجرجاني يريد أن يؤسس بكتابه الأخير هذا علمًا جديدًا استدركه على من سبقه من الأئمة، الذين كتبوا في “البلاغة” وفي إعجاز القرآن، إلا أن الملاحظة التي يمكن تثبيتها في هذا المجال، أنه لم يسر في بناء كتابه سيرة من يؤسس علمًا جديدًا، كالذي فعله سيبويه في كتابه الشهير، أو ما فعله أبو الفتح ابن جني في كتابه “الخصائص” أو ما فعله عبد القاهر الجرجاني نفسه، في كتابه “أسرار البلاغة”.

الجرجاني

العقل ونظرية النظم

رغم ذلك، ورغم الملاحظات التي يمكن إشهارها في مواجهة هذا الكتاب –وأهمها مسألة الخلط الحاصل في فهم كل من اللفظ والمعنى، بل وإغفال العلاقة بينهما– إلا أنه لا يمكن صرف النظر عن أن كتاب “دلائل الإعجاز” كان من أولى وأهم المحاولات في اتجاه تأسيس هذا العلم الجديد “الإعجاز في القرآن”.

في هذا الكتاب، رأى عبد القاهر أن بنية الكلام مرهونة بغايات المتكلم، وخاضعة لفكره الذي يصنع اللغة.. وأكد على هذا بقوله “الحظ الأوفى في حياكة نسيج الكلام إنما تعود للعقل، الذي هو بمنزلة المصور للحقيقة اللغوية، والكامن وراء تسلط الإنسان على اللغة؛ إذ يتعامل معها في محاورة سواء أكانت فاعلة بموجب البث (مع المتكلم) أم كانت ممتثلة (بموجب التلقي) بما يجمع محتوى الكلام مع صانعه ومتقبله معًا”.

ومن هنا، تبدو أركان العملية الإبداعية في فكر الجرجاني؛ إنها المتكلم والمتلقي والنص، أو الرسالة التي يتغيا المتكلم إيصالها إلى المتلقي، عبر محتوى الكلام، أو النظم.

من هنا، يتضح أن عبد القاهر يجعل من النظم، الذي هو صورة للمعنى، نظرية في دراسة النص وفهم أسراره؛ بل منح فكرة النظم صيغة جديدة، جعلت منها بحثًا عميقًا في العلاقات المتداخلة بين المفردات وتراكيبها. ومن ثم تتمثل البلاغة عنده في طريقة تقديم الكلام، وفي تنظيم معانيه؛ وبحسب عبارته “ليس لنا إذا نحن تكلمنا في البلاغة والفصاحة، مع معاني الكلم المفردة شُغْل، ولا هي منا بسبيل، وإنما نعمد إلى الأحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب”.

الجرجاني

يرى الجرجاني إذن، أن اللفظ رمزًا لمعناه، وأن العلاقة بينهما تُكَوِّن العلامة اللغوية التي هي نتاج ربطها بعضها ببعض من جهة، ونتاج ربط الألفاظ الأسلوبية ودلالاتها من جهة أخرى. بذلك، تكون اللغة مؤلفة من وحدات، هي الألفاظ، التي يخلق منها  النحو تراكيب متجددة، تعبر عن المعاني “المُقررة في النفس”.. وبناءً على ذلك يرى أن أهم وظيفة للغة هي الترابط الذهني بين الدال والمدلول، حيث تغدو “الدلالة” متداولة بين أفراد اللغة في مجتمع معين.

القرآن وآليات البرهان

وهكذا، فإن قارئ دلائل الإعجاز لابد أن يلحظ مدى حرص الجرجاني على دعوة المتلقي لتذوق البلاغة، ثم معرفة السبب الذي أدى إليها؛ من أجل ذلك، نجده قد اعتمد منهج التشكيل الفني، والتشكيل الجبري، في تصوير دلالة الكلام، بما يشبه العلاقة الجبرية التي يتعاقب عليها الإيجاب والسلب.

وبالتالي، بنى كتابه على فصول بلاغية أنجزها لإرساء علم البلاغة على أساس من المعرفة والعقل، في ضوء من المثل والدليل؛ في محاولة منه لإبطال أن تكون الفصاحة مردودها إلى اللفظ فقط، أو المعنى وحسب، وذلك بهدف الإقناع العقلي لإثبات ما يُريده في قضية “إعجاز القرآن”.

ولعل ما يوضح أكثر أهمية الجرجاني وأهمية كتابه، في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، هو ملاحظة الكيفية التي نشأ بها، وتأسس كل من علم البلاغة، وعلم الإعجاز –أي الكشف عن آليات البرهان في القرآن– إذ لم تكن نشأة علم البلاغة في الثقافة العربية الإسلامية مثله في ذلك، مثل العلوم العربية الأخرى، بسبب تأثير خارجي، ولكنها كانت بدافع “حاجة داخلية في هذه الثقافة نفسها”.

لقد كان تحليل الخطاب البلاغي العربي، يرمي إلى الكشف عن منطقه الداخلي، وذلك بهدف استثمار النص القرآني في مجال الشريعة والعقيدة معًا. فمن جهة، كان لابد لاستنباط الأحكام الشرعية من القرآن، من المعرفة المُنظمة المُقننة بأساليب التعبير فيه. ومن جهة أخرى، كان لابد لمواجهة المنكرين لإعجاز القرآن، من بيان وجوه هذا الإعجاز.

والواقع، أن تأسيس البلاغة بوصفها علما من العلوم العربية، إنما يرجع الفضل فيه إلى المتكلمين الأوائل، الذين كان عليهم أن يواجهوا خصومًا ركزوا على إنكار إعجاز القرآن، ضدًا على الإسلام والعرب معًا نقصد الزنادقة والشعوبيين، فكان لابد من الكشف عن “دلائل الإعجاز” في الكلام العربي، وبيان “أسرار البلاغة” فيه. وذلك ما تصدى له البلاغيون الأوائل، الذين حللوا الخطاب العربي البليغ من داخله أي من دون أن يتخذوا من أرسطو، أو غيره، إطارًا مرجعيًا لهم.

الجرجاني

اللسان العربي والبيان

ومن ثم، كانت النتيجة أن شيد البلاغيون القسم الثاني من المنطق العربي منطق اللغة العربية، بعد أن كان النحاة قد انتهوا من تشييد القسم الأول منه. فقد بدأ النحاة بتقنين الخطاب العربي وتحديد مقولاته وقوالبه المنطقية؛ ثم جاء علماء البلاغة لإتمام نفس المهمة “بيان وجوه الإعجاز في نفس الخطاب، أي الكشف عن آلياته في البرهان”.

وإذا كان علماء البلاغة قد أجمعوا على أن أساليب البيان في اللسان العربي ترجع كلها إلى التشبيه، فان الجرجاني يشرح سر الإعجاز في التشبيه، عندما يستوفي شروطه البيانية والبلاغية، فيقول “وإنها لصنعة تستدعي جودة القريحة والحذق الذي يلطف ويرق، في أن يجمع أعناق المتنافرات المتباينات”.. ثم يضيف “واعلم أني لست أقول متى ألفت الشيء ببعيد عنه في الجنس على الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقول بعد تقييد وشرط: وهو أن تصيب بين المختلفين في الجنس، وفي ظاهر الأمر، شبهًا صحيحًا معقولًا وتجد للملائمة والتأليف السوي بينهما مذهبًا وإليهما سبيلًا”.

القاعدة التي يصل إليها الجرجاني إذن، هي “الجمع بين المختلفين من الجنس.. والتأليف السوي بينهما” وهي القاعدة التي ينبني عليها، ومن خلالها، سر البلاغة العربية؛ أي: تقنية (ميكانيزم) البيان والبرهان في الخطاب العربي.

ولعل هذا ما يشير إلى محاولات علماء البلاغة، وفي مقدمتهم الجرحاني، في التشريع للذوق الأدبي في الثقافة العربية، من خلال ضبطهم وتقنينهم للقول البليغ ووضع معايير له. ولعل أهم ما يأتي في شأن هذا الضبط، هو اشتراطهم ـ في الكلام البليغ ـ أن يكون مبنيًا على تشبيه، أو ما يؤول إلى تشبيه.

ذلك لأن التشبيه، إنما يستهدف الانتقال بالمخاطب من المعقول إلى المحسوس، مما يجعل منه قياسا يلحق فيه المجهول الغائب بالمعلوم الشاهد، عبر صفة أو شبه بينهما. أو كما يؤكد الجرجاني “إن الاستعارة هي ضرب من التشبيه ونمط من التمثيل والتشبيه قياس”.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock