رؤى

في شهر ميلاد الإمام الطيب..  من جهود الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب في التجديد

يُعدّ الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب([1]) امتدادا لمدرسة الإصلاح والتجديد، فكثيرا ما احتفى بها الإمام، ففي افتتاح مؤتمر الأزهر العالمي لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية أكّد على أهمية استعادتها من جديد بقوله: “اليوم لا يُخامرني أدنى شكّ في أنّ التّيار الإصلاحي الوسطي هو الجدير وحدَه بمهمة التجديد التي تتطلعُ إليه الأمة”.([2])

فمضى الإمام الطيب منذ توليه مشيخة الأزهر ١٩مارس٢٠١٠، في طريق الشيخ رفاعة الطهطاوي، والشيخ محمد عبده، والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ مصطفى عبدالرازق وغيرهم من رسل إصلاح الوعي الديني، ممنْ آمنوا بدور الأزهر الشريف كأحد مراكز قوى مصر الناعمة القادرة إذا ما تبنّى طلابه وباحثوه خطابا إسلاميا عقلانيا قيميا متسقا مع العلم والإنسانية أن يُعزّزوا الإيمان، والسلام، والتسامح، والأخوة، والعمل والبناء الحضاري.

ففي الوقت الذي آثرت بعض الخطابات الدينية حراسة التراث الفقهي على الاستجابة للواقع الاجتماعي، فحرّموا تهنئة غير المسلمين بأعيادهم مستندين مرةً إلى ما جاء في التراث الفقهي للمذاهب الأربعة من أقوال بالتحريم،([3]) ومرةً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه “لَا تبدءوا الْيَهُود، وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذا لَقِيتُم أحدهم فِي طَرِيق فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أضيقها”. [صحيح مسلم، حديث ٢١٦٧]، فمن منظورهم إذا كان البدء بتحية غير المسلم حرام عند الشافعية، ([4]) والحنابلة ([5]) مكروه عند الأحناف ([6]) والمالكية ([7]) فكيف تصحّ التهنئة!

في مواجهة تلك الخطابات الحرفية المتشددة، والخطابات الجامدة فقهيا المتجاهلة طبيعة الفقه كمجموعة من الأحكام يتشكّل بعضها في سياق اجتماعي ما يجعلها قابلة للتغيير، وإعادة النظر فيها، فحركة الاجتماع مؤثرة في الفكر والاجتهاد الديني قديما وحديثا، جاءت فتاوى واجتهادات الإمام الطيب مؤكدة “أنّ الأديان السماوية هى أولا وأخيرا ليست إلا رسالة سلام إلى البشر.. مشددا الإمام الطيب على أنّ مَن يحرمون تهنئة المسيحيين أعيادهم غير مطلعين على فلسفة الإسلام في التعامل مع الآخر بشكل عام، ومع المسيحيين بشكل خاص، التي بينها لنا الخالق عز وجل في قوله تعالى: “لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”. [الممتحنة:٨]

وأنّ العلماء استخرجوا من وحي هذه الآية جواز صدقة المسلم شرعا لغير المسلم من المسيحيين أو اليهود أو المجوس وكذلك زكاة الفطر، والكفارات، والوصية، والوقف. وبعضهم يذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما زارتْها أمّها في المدينة، وكانت مشركة، فسألت أسماء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هل تستقبل أمّها، وتصلها؟ فقال: صلى الله عليه وسلم نعم.. صِلِى أمّك، فإذا كانت صلة المسلم للكافر مطلوبةً أيكون مجرد السلام على أهل الكتاب وتهنئتهم منهيا عنها!

وأمرٌ آخر هو ما يعلمه المسلم وغير المسلم من قوله تعالى: “وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يستكبرون”. [المائدة: ٨٢] ووصف أتباع عيسى عليه السلام بالرأفة والرحمة في قوله تعالى: “وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً” [الحديد: ٢٧]

والسؤال هنا: هو هل ينتظر المسلم وهو يقرأ هذه الآيات الكريمة أن تفاجئه آيةٌ أو حديثٌ صحيح يحرم عليه تهنئة جاره أو صديقه المسيحي، أو تنهاه عن مصافحته!! وأمر ثالث تحدثت فيه مع أصحابنا ممن يتمذهبون بهذا المذهب المتشدد، وهو كيف يُبيح القرآن للمسلم أن يتخذ زوجةً له مسيحية أو يهودية تبقى على دينها مع زوجها المسلم، ويكون بينهما ما يكون بين الزوج وزوجته من المودة والرحمة والاحترام والعيش الجميل المشترك، وبينهما من الأطفال ما يزيدهما حُبا وتماسكا. أقول: كيف يبيحُ له القرآن الكريم والشريعة الإسلامية كلّ ذلك.. ثم يقال له: أحذر من تهنئة زوجتك في أعياد ميلادها أو في أعياد ميلاد السيد المسيح فإنه حرام”.([8])

نجح الإمام الطيب في تحريك الخطاب الفقهي ليُساير حركة الاجتماع المتطور في هذه القضية وغيرها، فحسم الجدل الفقهي المتعلق بعدد من قضايا المرأة المعاصرة من تولي الوظائف العليا، والقضاء، والافتاء، والسفر، وتحريم الطلاق التعسفي ووصفه بالجريمة الأخلاقية، مؤكدا أنه لا وجود لبيت الطاعة في الإسلام، ولا يحق للولي منع تزويج المرأة برجل كفء ترضاه، وأن للمرأة نصيب من ثروة زوجها شرعا إذا كانت سببا في تنمية هذه الثروة”.([9])

من جانب آخر دعا الإمام الطيب إلى رحابة الصدر لقبول الاختلاف والاختيار من بين مذاهب المتكلمين دون الجمود المذهبي عند مدرسة بعينها على نحوٍ يُهملُ الاستفادةَ من غيرها، فتحدّث عن أجواء التعدد الفكري التي عاشها طالبا في الأزهر بقوله: “أذكرُ حينَ كنتُ طالبا بـ (قسم العقيدة والفلسفة) بكلية أصول الدين في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي.. كيف كان الجوُّ العلمي في ذلك الوقت؛ أرحب صدرا، وأسمى غاية ومقصدا، بكثير مما آل إليه الوضع الآن.

فقد كنّا نَدرسُ مذاهب علماء الكلام من معتزلة وأشاعرة وماتريدية وغيرها دراسة نقدية حرّة؛ لا يُوجَّه فيها الطالب نحو مذهب مُعيّن، ومنّا من كان يُدافع عن مقولات أهل الاعتزال، ومنّا من كان يُدافع عن الأشاعرة، ومنا من يستحسن نظريات هنا وهناك”. ([10])

جمع الإمام الطيب بين شخصية المحقق والمُحكّم والمصلح القادم من صعيد مصر بما يحمله الجنوب من تاريخ وحضارة، وشخصية الباحث والأستاذ الأكاديمي المتخصِّص في الفلسفة التي درس أصولها في فرنسا، صاحب البحوث العلمية الجادة، والتجربة التدريسية الناجحة في العديد من الجامعات، وقد ظهرت تلك الشخصية الثريّة للإمام في الوثائق التي أصدرها الأزهر، الرافضة للفرقة والعنف، والداعية للاحتكام إلى العقل، والتّمسك بالحوار، ومنها: “وثيقة الأزهر عام  ٢٠١١ حول مستقبل مصر”، ووثيقة “المواطنة والعيش معا” عام ٢٠١٧، ووثيقة “الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” في ٤ فبراير عام ٢٠١٩.

وتتجلّى جهود الإمام التجديدية إذا قارنّا بين رؤية المؤسسات المندرجة تحت الأزهر للحياة السياسية والاجتماعية في مصر بين عام ١٩٧٨، وعام ٢٠١١، فأمام تمسّك مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف عام ١٩٧٨، بالإمامة والحدود والحسبة في وثيقته لدستور مصري مقترح يُنظم جوانب الحياة السياسية والاجتماعية المصرية،([11]) سنجد وثيقة الأزهر لمستقبل مصر عام ٢٠١١، في منطقة أخرى إذ أنّها تضعُ إطارا عاما للدستور يُراعي المتغيرات الاجتماعية والسياسية، ويُرسخ لمبدأ الحرية الفكرية والسياسية وحرية الاعتقاد ويعزز ثقافة ومبدأ المواطنة ومسئولية الهيئات النيابية المنتخبة عن التشريع، وبينما جاءت وثيقة ١٩٧٩، تعبيرا عن مؤسسات الأزهر جاءت وثيقة ٢٠١١، في ظلّ مشيخة الإمام الطيب، تعبيرٌ عن الأزهر وبمشاركة مؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب، والقوى السياسية، ورموز الأدب، والفكر، والثقافة، والسياسيين من مختلف التيارات.

فمن مواد الدستور المقترح من الأزهر عام ١٩٧٩م: “مادة٦: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضٌ ويأثم من يُقصر فيه مع القدرة عليه.. مادة ١٤: التبرج محظور والتصاون واجب.. مادة ٧١: توقيع عقوبات الحدود الشرعية في جرائم الزنا والقذف والسرقة، والحرابة، وشرب الخمر، والردّة.. مادة ٤٤: يكون للدولة إمام، وتجب الطاعة له، وإن خُولف في الرأي. مادة ٤٥: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا للإمام في أمرٍ مقطوع بمخالفته للشريعة. مادة ٤٦: يُبين القانون طريقة البيعة العامة في اختيار الإمام، على أنْ تتمّ البيعة العامة تحت إشراف القضاء، وتكون البيعة بالأغلبية المطلوبة لأصوات المشتركين في البيعة. مادة ٤٧: يُشترط للمرشح للإمامة: الإسلام، والذكورة، والبلوغ، والعقل، والصلاح، والعلم بأحكام الشريعة الإسلامية.

بينما نصّت “وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر” الصادرة في ٩ يونيو ٢٠١١، على أحد عشر محورا تدعم فيها تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، فجعلت سلطة التشريع متمثلة في نواب الشعب، واعتمدت النظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحرّ المباشر بوصفه الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يتضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة. كما نصّت في محورها الثالث على التزام بمنظومة الحرّيات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان، واعتبار المواطنة مناط المسئولية في المجتمع، ونصّت الوثيقة في المحور الرابع على الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدّين واستخدامه لبعث الفرقة والتّنابذ والعداء بين المواطنين.. واختتمت الوثيقة حديثها بالتأكيد على حرية البحث العلمي.

فتلك الوثيقة خير دليل على جهود الإمام الطيب في تجديد الفكر الديني بما يتسق مع الواقع الاجتماعي والسياسي، وما يتفق وطبيعة دولة المواطنة المعاصرة، وثيقة تؤكد على حرية العقيدة، وحرية الرأي والتعبير وحرية البحث العلمي وحرية الإبداع الفني.. وثيقة تستخدم مفردات الدولة الحديثة مثل الديمقراطية والدستور والفصل بين السلطات والمساواة بين أفراد الشعب ومنحه سلطة التشريع للمجالس النيابية ودعت للالتزام بالمبادئ الكلية للشريعة؛ مصدرا أساسيا للتشريع وليس الوحيد، فدعوتها لمراعاة مبادئ الشريعة الكلية يُساعد في إقامة الدولة الديمقراطية الحديثة.

وفي “المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية” المنعقد بالعاصمة الإماراتية أبوظبي في ٤ فبراير عام ٢٠١٩، والذي ترأسه شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب وبابا الكنييسة الكاثوليكية البابا فرنسيس؛ أعلنا “وثيقة “الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” في محاولة منهما لاستعادة وجه الأديان السمح ودورها الفاعل في نشر ثقافة الحوار وقيم التسامح والحرية والعدل والسلام والعيش المشترك، وترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة في مجتمعاتنا، والتّخلي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح “الأقليات” الذي يحمل في طيّاته الإحساس بالعزلة والدُّونية، كما أكّدت الوثيقة على ضرورة التَّصدي للإرهاب، وحماية دُور العبادة من معابد وكنائس ومساجد، والسّعي الجدّي لوقف ما يشهده العالمُ حاليا من حروب وصراعات وتراجع مناخي وانحدار ثقافي وأخلاقي.

بيدَ أنّ دعاةَ التشاؤم في عالمنا العربي يُقلّلون من أهمية الوثيقة، ويُفسّرون محاولات التّلاقي الفكريّ والعمل المُشترك بأنّها مؤامرات كونية ماسونية على الإسلام، فيروّج جانبٌ منهم لأفكار صدامية لا تقلّ عن أفكار صامويل هنتنجتون “Samuel Huntington” في نظريته “صراع أو صدام الحضارات” مستبعدين أيّ معاني للإخاء الإنساني، فلا تختلف نظرتهم عن النظرة السوداوية للفيلسوف الإنجليزي “توماس هوبز” “Thomas Hobbes”، دون أن يتلفت مردّدو تلك الآراء إلى أنّ الإنسان ابتدع اللغة، والفن، والعلم، والفلسفة، وشتى ضروب التواصل بُغية إقامة جسور تربطه بالآخر، فالإنسانية السويّة “شعور عميق بالحاجة إلى الخروج من الذات، والعمل على التماس الحقيقة الدفينة الكامنة في أعماق ذوات الآخرين”، وإذا كان ثمّة دليل قاطع على إمكانية الإخاء الإنساني، فما ذلك سوى ما يشهدُ به الواقع نفسه من إمكان قيام “تواصل روحي” بين بنى البشر قاطبةً في كل زمان ومكان عبر نصّ أدبي أو لحن موسيقي أو وثيقة حقوقية..

على صعيد آخر، وَضَعَنا الإمام الأكبر في مواجهة مع إحدى أهم الإشكاليات التي نعيشها في العصر الحديث وهي علاقة المسلمين بالغرب التي تشكّلت في القرنين الأخيرين على نحو متناقض، فهو المستعمر المعتدي الغاشم في بعض صوره الذي يتحتم علينا الدخول في صراع معه من جهة.. وهو صاحب المنجز الحضاري المتقدم الذي يتحتم أن نتعلم منه من جهة أخرى.. وهو المتهم بالتآمر في تصوّر بعضنا ممن يُفسّرون كلّ إخفاق بنظرية المؤامرة في محاولة لإعفاء الذات من تحمّل أيّة مسئولية بإلقاء التّبعة كاملة على الآخر.. وهو في الوقت نفسه الذي يكيل بمكيلين على نحو يضرّ ببعض قضايانا.

فأعاد الإمام الأكبر إلى الأذهان إشكالية علاقتنا بالغرب في الندوة الدولية التي جاءت بعنون “علاقة الإسلام بالغرب” التي نظّمها الأزهر الشريف في ٢٤:٢٢ أكتوبر ٢٠١٨، بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين، وقد أدرج الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب علاقتنا بالغرب تحت موضوع “حوار الحضارات” الذي وصفه في مستهلّ كلمته “بـالمكرر الذي قيل فيه كلامٌ كثير، وصَدَرَتْ بيانات وتوصيات لا يُستهان بقَدْرِها في الدَّعوةِ إلى الحوارِ بين الحضارات، وضرورة الالتِقاء على أمرٍ جامعٍ بينها من أجلِ إنقاذ عالَمنا المعاصر من مخاطر الصِّراع والسَّلام المتوتِّر”.

وبجُملٍ شديدة الإيجاز طوى الإمام الأكبر صفحات تلك الإشكالية مؤكدا على موقف الأزهر المتطلع للتعاون العلمي مع الغرب والاصطفاف معه في مواجهة الإرهاب والتطرّف، مُعرِبا عن قناعته بـ “أن الشرق: أديانا وحضاراتٍ ليست له أيَّة مُشكلة مع الغرب، سواء أخذنا الغرب بمفهومِه المسيحي المتمثل في مؤسَّساته الدينيَّة الكبرى، أو بمفهومِه كحضارة علميَّة ماديَّة، وذلك من منطلق تاريخ الحضارات الشرقيَّة ومواقفها الثابتة في احتِرام الدِّين والعِلم أيًّا كان موطنهما وكائنا من كان هذا العالِم أو المؤمن.

ومَنْ يشرفنا منكم – أيُّها السَّـادة الضيـوف الفُضلاء-بزيارة لكلياتنـا الأزهريَّة العريقة في حَيِّ الأزهر القديم يرى معهدا لتعليم طلابِنا الذين هم شيوخُ المستقبل، اللُّغاتِ الأوروبيَّةَ، وإعدادِ المتفوقين منهم للدراسات العُليا في جامعات أوروبا، وهذا المعهد يشترك في إدارته والإشراف عليه المركزُ الثقافي البريطاني، والمركزُ الثقافي الفرنسي، ومعهدُ جوته الألماني، تحت مظلَّة مشيخة الأزهر الشريف.

فالمسلمون يعتقدون أن العلاقة بين الحضارات إنما هي علاقة تعارف وتعاون وتكامل، وأنّها إنْ سارتْ في اتجاه الصراع البائس المشئوم فإن النتيجة لن تكون أبدا سيطرة حضارة على أخرى أو سيادة ثقافة أو دين على سائر الثقافات والأديان.. وإنما المصير المحتوم حينئذ سيكون لا محالة إما انهيار الحضارات المتغطرسة، أو عودة البشرية كلها إلى حالة من الهمجية والفوضى ربما لا يعرف التاريخ لها مثيلا من قبل”.([12])

كما أكّد الإمام الأكبر -بما لا يدع مجالا للشكّ- أن “الدِّين مختطفٌ بالإكراهِ لارتكاب جرائمَ إرهابيَّة بَشِعة على مرأى ومسمع من أهلِه وذويه والمؤمنين به، وأنَّ المسلمين الذين يوصفون بالعُنف والوحشية هم – دون غيرهم – ضحايا هذا “الإرهاب الأسوَد”، وأن تعقُّبَ أسباب الإرهاب، والبحثَ عن عِلَلِه القُصوى ليس محلُّه الإسلامَ ولا الأديانَ السَّماويَّة، أمَّا محلُّه الصَّحيح فهو الأنظمة العالميَّة التي تُتاجر بالأديانِ والقيمِ والأخـلاقِ والأعرافِ في أسـواقِ السِّـلاح والتسليح وسياسات العُنصرية البغيضة والاستعمار الجديد”.

بهذه العبارات أرسى الإمام مبدأ: أنّنا لسنا إزاء “غرب” واحد يمتلك نظرة واحدة للإسلام، فهناك النظرة الأكاديمية الصادرة عن المؤسسات العلمية، والنظرة السياسية، والنظرة الإعلامية التي تتفاوت تبعا لموقع تلك الأحزاب والمؤسسات من قوى اليمين العالمي المتشددة.. فمواجهة إشكالية علاقة المسلمين بالغرب تتطلب منا ضرورة التمييز بين الحضارة الغربية والغرب السياسي الذي انتقده الإمام لكيله بمكيلين في “قضية فلسطين” أهم قضية تشغل المسلمون..

فحرّك الإمامُ الطيب وعيَ المسلمين؛ ليميزوا بين مفهومين للغرب، فيُشير المفهوم الأول إلى مجموعة من المنظومات – لا منظومة واحدة – الفلسفية والفكرية والثقافية والسياسية، والجمالية والفنية والأدبية، بينما يُشير المفهوم الثاني إلى مجموعة النظم والإيديولوجيات الحاكمة في الغرب، وهي نظم وإيديولوجيات لا تُمثّل بالضرورة الجانب القيمي الحضاري، كما أن السياسات التي تتبعها تلك النظم السياسية قد لا تعكس في أدائها وتوجهاتها مقتضيات السلوك الحضاري المرجو دائما.

([1]) وُلد الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب الحسَّاني بقرية القُرنة التابعة لمحافظة الأقصر في جنوب مصر، في ٣ صفر ١٣٦٥ه/ ٦ يناير ١٩٤٥، لأسرة صوفية زاهدة، فجدّه الأكبر مؤسس الطريقة “الخلواتية الحسانية” الصوفية، حَفِظ القرآن والمتون العلمية على الطريقة الأزهرية الأصيلة، التحق بمعهد إسنا الديني، ثم بمعهد قنا الديني ثم التحق بقسم العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين بالقاهرة عام ١٩٦٩م، تلقى العلم في الأزهر على يد كبار العلماء، وشهد منذ صغره مجالس المصالحات والمحاكم العُرفية في ساحة الطيب، ثم أصبح مشاركا ومحققا في مجالس المصالحات وفضّ النزاعات منذ عامه الخامس والعشرين، حصل على شهادة التخصص الماجستير عام ١٩٧١، ثم درجة العالمية الدكتوراه عام ١٩٧٧م، عمل بعدد من الجامعات منها: جامعة الإمام محمد بن سعود، جامعة قطر، جامعة الإمارات، الجامعة الإسلامية العالمية بباكستان.

([2]) افتتاح مؤتمر الأزهر العالمي لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية (٢٧-٢٨ يناير ٢٠٢٠)

([3]) أحكام أهل الذمة، ج١، ص٤٤١، مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل ج٨، ص٣٨٤. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي، ج٦، ص٢٢٨.

([4]) يقول النووي في شرح مسلم: “ردّ السّلام على الكفار وابتدائهم به فمذهبنا تحريم ابتدائهم به” شرح النووي على مسلم ج١٤، ص١٤٥. ط دار إحياء التراث العربي، بيرت. الطبعة الثانية، ١٣٩٢م.

([5]) الإنصاف ج٤، ص٢٣٣ ط. دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية.

([6]) الدر المختار شرح تنوير الأبصار

([7]) الفواكه الدواني. ج٢، ص٣٢٦.

([8]) https://www.youtube.com/watch?v=dtHHbVWwFTA

([9]) الحلقة الخامسة والعشرين في برنامج الإمام الطيب في نسخته الرمضانية الخامسة.

([10]) الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، مقدمة كتاب المناهج الأزهرية قائمة بالكتب المعتمدة في الأزهر الشريف، سقيفة الصفا العلمية، ماليزيا- الأزهر الشريف، القاهرة، الإصدار الثاني- الطبعة الثانية، ١٤٤٠هـ- ٢٠١٩م، ص١١.

([11]) نُشرت في مجلة الأزهر في أبريل سنة ١٩٧٩م.. كذلك: يُنظر: د. أحمد عبدالسلام ود. عبدالباسط هيكل وباحثون آخرون، تحولات المؤسسة الدينية والخطاب الديني ما بعد الثورة المصرية، دراسات المعاهد الشرقية الكتاب (١٠)، مكتبة البحر الأحمر، القاهرة، الطبعة الأولى ٢٠٢٤.

([12]) الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، السلام ومشتقاته في القرآن الكريم، مجلة مركز البحوث والدراسات الإسلامية، مجلد٦، عدد ١٦ ١٤٢١-٢٠١٠.

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل

أستاذ بجامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock