رؤى

السؤال الإصلاحي في مؤتمر المعهد الألماني للدراسات الشرقية ببيروت “الدين، التدين، المجتمع”

في واقع معرفي عربي مأزوم، سقطت فيه الدراسات الإسلامية والعربية في هُوة الوعظ، الذي يعتمد على تحسين أو تقبيح إطلاقي عام مرسل يقيني، لا تعرفه لغة العلم، فلا يقوم كثير من المنشغلين بالدراسات الإسلامية في جامعاتنا، بدور الباحث المفكّر؛ لكن بدور الواعظ المتأمل، والوعْظ إذا دخل في البحث العلمي أفسده؛ فأكثر الأقسام العلمية لا تبحث عمّا يُحقق وعي علمي بالثابت والمتطور في بنية النص المقدّس/ الوحي، ولا تعيد النظر في كثير من المسلمات المعرفية الكاذبة، فتستظهر ما قاله القدامى كمُقدماتٍ لنتائجَ جاهزةٍ قد حددوها مسبقا، مكتفية بطلاء المقدمات والنتائج، بألفاظ بِطلاءٍ حداثي، بِحَشْوِ البحثِ أو المقالِ العلميِّ ببعض الكلمات والجمل من آليات الدرس المعاصر.

يصدر أمثال هؤلاء الباحثين، في دراساتهم الإسلامية، عن يقين كبيرٍ في أنّهم يُحيطون علما بالإسلاميات، ظنًّا منهم أنّ عروبة لسانهم كافية لمنحهم قدرةً، – دونَ غيرهم- على فهم القرآن الكريم وتراث علماء المسلمين، وهذا ما يجعلهم يشعرون بالاشمئزاز من كل منهج جديدٍ لا يعرفونه، ويتّهمون كلّ مختلفٍ عنهم، ويتصدّون له بعنفٍ شديد؛ خوفا من أن يُزعزع ثقتهم بعلمهم ونظرتهم للعالم، فلديهم عقل متأكّد من كل شيء؛ لذا فهم خاملون لا يبحثون عن شيء جديد، لا يهزّهم ولا يُحرّكهم الإخفاق الحضاري الذي نعيشه منذ مئات السنين، ولا المشكلات الاجتماعية التي تُحيط بنا، متجاهلين أنّ “كل ّالمشاكل الناجمة عن أسلوب ومستوى معين من التفكير، لا يُمكن أن تُحلّ ما دُمنا مُصرّين على اعتماد نفس الأسلوب في التفكير” فضعْف منظومة القيم الإسلامية، وعزلة اللغة العربية في مجتمعاتنا؛ يكمن خلفه أسلوبٌ ومستوى معين من التفكير، في أقسام الدراسات الإسلامية والعربية بجامعاتنا، ولا أمل في التغيير ما دُمنا مُصرّين على الأسلوب نفسه.

يُجيد هذا النوع من الباحثين، كتابة آلاف الأسطر في وصف الحالة السيئة لواقعنا العربي والإسلامي، دون أن تتجاوز لُغتهم حدود التوصيف الإنشائي، إلى مستويات أعمق من التفكير النقدي، والعمل التنظيري الذي يتبعه تغييرات جذرية، للواقع الخارجي على غرار محاولات الأمم، في سعيها نحو التمدن والتحضر، لكنّه على النقيض، يتّهم كلّ محاولة للتفكير بأنّها تشكيك، ويرى كل محاولة للنقد نقضا، مكتفيا بترديد الإجابات الجاهزة دون التفكير فيها، تلك الإجابات التي تحاصر العقل وتعطّله وتمنعه من الانطلاق في فضاءات الإبداع بحثا عن حلول لمشاكله، فالإجابات المُعلّبة المُعدّة سلفا؛ تُضعف ملكة النقد بداخل الباحث، وتُعطيه إحساسا كاذبا بالإنجاز المعرفي؛ ليمضي في شئون حياته اليومية، إجابات تسكينية تقفز على المشكلة، ولا تُواجهها، تُعطي شعورا بالأمان لمجتمع قلقٍ مما حوله، فكل محاولة بحثية لتفكيك تلك الأجوبة المسكّنة، وإعادة النظر فيها يُهدد وجود المستكينين أنفسهم، ما يدفعهم إلى استخدام العنف، والتعامل مع الباحث المتسائل كعدو.

في مقابل هذا الواقع، يأتي المؤتمر الثاني هذا العام، للمعهد الألماني للدراسات الشرقية ببيروت OIP الذي انعقد بالإسكندرية، بعنوان “الدين والتدين والمجتمع” وافتتح فعالياته الدكتور توماس فورتز مدير المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، والدكتور أحمد عبد السلام منسق البرامج أستاذ التاريخ الإسلامي، والدكتورة ياسمين أمين مديرة مكتب القاهرة، وبدأ فعالياته بمحاضرة افتتاحية للمستشار عبد الجواد ياسين.

المؤتمر حرّك الماء الراكد، ومنح الباحثين فضاءً للتفكير بصوتٍ مسموع، مساحة يتحرك فيها العقل المُتطلّع إلى المعرفة، الباحث عن إجابات لأسئلة الحاضر، فكلّما تعرّف على ثقافات متنوعة، اتّسع أفقه، وازدادت ثقته بنفسه كجزء من عالم متعدد الأفكار والثقافات، وأصبح مرنًا لا يتوقف عن مراجعة أفكاره ومواقفه باستمرار، متقبلا للتغيير والتجديد، منطلقا في تفكيره من إيمانه بدعوة القرآن الكريم في (٦٤٠) آية إلى التفكير، الذي هو في حقيقته حالة من التساؤل المستمر، فعندما يتوقف العقل عن التساؤل يختفي، فلا معنى لبحثٍ في الإسلاميات لا ينطلق في سؤاله البحثي من مشكلات المجتمع، سؤال يتعايش به الباحث مع حاضره بعيدا عن أسئلة الماضي التي لا مساس لها بالحاضر.

ضم المؤتمر مجموعة من الباحثين الجادّين، المشغولين بفكرة مواجهة أسباب الجهل والخرافة التي نعيشها، ومن أخطرها تغييب التفكير العلمي عن أقسام الدراسات الإنسانية، فالتفكير في ذاته ليس جريمة، ونشْر الاجتهاد الذي هو ثمرة التفكير واجب يُمليه ضمير الباحث ومسئوليته إزاء دينه ومجتمعه، مُتحليًا بتقوى معرفية تُمْلي عليه أن يُقدّم اجتهاداته بلغةٍ جسورةٍ غير مراوغةٍ، لغة تقول ما تُريد دون لفّ أو دوران حول المعنى، ودون تحسس لحركة اتجاه الريح، أو تلمّسٍ لما يُمكن أن ينال رضا “العامة” أو موافقة من يُغازلون “العامة” بخيانة الفكر والضمير.

لم يزعم واحد منهم أنه يُقدم الدين بالألف واللام، فالمؤتمر يُعلن من الوهلة الأولى عبر عنوانه أنّنا أمام دين وتدين، دين ومعرفة دينية، إسلام وفكر إسلامي، حركة اجتماع حاضرة في المسألة الدينية، ومقارباتها على نحو يُحتّم على الجميع أن يُسلم بأنّ ثمة خط فاصل بين الدين الجوهر الثابت الذي لا يقبل التطور، والتدين المتعدد المتطور المتأثر بسياقات زمنية ومكانية، وأعراف حاضرة في بنية النص المقدس “الاجتماع المنصوص” تندرج في التدينات المتغيرة المتطورة وإن تسللت عبر الدرس التلقيني لتختبئ تحت جلد المقدس مُخفية طبيعتها.

أخيرا.. من أبسط المؤشرات وأعمقها على نجاح مؤتمر OIB المعهد الألماني للدراسات الشرقية ببيروت، تنوع المرجعيات الدينية والمذهبية للمشاركين فمن المشاركين في المؤتمر، شيخ أزهري أستاذ بجامعة الأزهر، كاتب هذا المقال، وقسيس أستاذ جامعي بجامعة أمستردام، باحثون سنة وشيعة، وإباضية، يحملون جنسيات مختلفة، اتفقوا دون إعلان على أنّ كل واحد منهم إنسان، لا يمتلك أي تفوق أو استحقاق زائد.. لم يشعر واحد منهم باستعلاء امتلاك الحقيقة، وتوحّد الذات مع الفكرة؛ بل جمعهم أنهم في حالة مقاربة للمعرفة الدينية بالقدر الممكن علميا وإنسانيا.

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل

أستاذ بجامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock