منذ تأجيل الانتخابات العامة في ليبيا، التي كانت مقررة في نهاية عام 2021، تعيش البلاد حالة من الجمود السياسي المستمر، بما انعكس على المشهد العام.. سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي. ورغم هذا التعقيد، في المشهد العام الليبي، فقد تزامن حدثان مهمان يختصان بمحاولات البحث عن حلول للأزمة الليبية الممتدة إلى عام 2011، أي منذ إسقاط نظام القذافي.
فمن جانب، أطلقت المبعوثة الأممية إلى ليبيا ستيفان خوري، مبادرة جديدة في محاولة منها لحل أزمة القوانين الانتخابية الخلافية، وتشكيل حكومة توافقية، بهدف التوصل إلى اتفاق يُمهد الطريق إلى إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية. وخلال الإحاطة الأخيرة لها أمام مجلس الأمن الدولي، في 16 ديسمبر 2024، أكدت خوري أن “أي حكومة جديدة، يجب أن تلتزم بالمبادئ والضمانات والأهداف والآجال الزمنية للوصول إلى الانتخابات”.
من جانب آخر، شهدت مدينة بوزنيقة المغربية، في 18 ديسمبر 2024، حدثا سياسيا هاما يتمثل في اجتماع الأطراف الليبية، والذي أسفر عن الإعلان عن تشكيل حكومة ليبية موحدة. وفي حين يُنظر إلى هذا التطور باعتباره خطوة هامة نحو تحقيق الاستقرار، فإن تحليل دوافع الاجتماع والاحتمالات المستقبلية لنتائجه- يستدعي إلقاء نظرة معمقة على السياق الداخلي الليبي والإقليمي والدولي؛ فضلا عن تساؤلات يمكن أن تُثار حول علاقة هذا الاجتماع بمبادرة المبعوثة الأممية إلى ليبيا.
اجتماع بوزنيقة
بمشاركة نحو 40 عضوا من البرلمان الليبي، و46 من المجلس الأعلى للدولة، اتفق المشاركون على تشكيل حكومة مؤقتة، وتشكيل لجان تتولى حل القضايا الخلافية في المجالات الأمنية والاقتصادية.
والواقع، أن الدوافع التي قادت الأطراف الليية إلى اجتماع بوزنيقة متعددة؛ ويمكن تقسيمها إلى دوافع داخلية وأخرى خارجية؛ إضافة إلى الضغوط الدولية والإقليمية.
في ما يتعلق بالدوافع الداخلية.. فإن أهم ما يأتي في هذا الشأن، هو فشل كافة محاولات الحل العسكري في البلاد؛ إذ على الرغم من محاولات القوى العسكرية، والميليشيات المنتشرة في ربوع ليبيا، خاصة في المنطقة الغربية، فرض حلول بالقوة؛ إلا أن التوازن العسكري المعقد في البلاد؛ حال دون تمكن أي طرف من السيطرة الشاملة على الأرض.
هذا الفشل في الحسم العسكري، دفع العديد من الفصائل إلى الاعتراف بأن الحل الوحيد للأزمة هو عبر الحوار السياسي، ما جعل من اجتماع بوزنيقة منصة طبيعية للتفاوض.
أما ما يختص بالدوافع الخارجية.. فهناك من جانب، المصالح الدولية والإقليمية في ليبيا؛ حيث تمثل ليبيا نقطة جذب للعديد من القوى الإقليمية والدولية، نظرا لموقعها الاستراتيجي والجيوسياسي، فضلا عن ثرواتها النفطية. تدخلات بعض الدول مثل تركيا وروسيا، ودور دول الجوار (المغرب والجزائر ومصر) التي تلعب دورا محوريا في توجيه الأحداث.
ويُعد اجتماع بوزنيقة تعبيرا عن رغبة هذه القوى في إرساء حلول سياسية، وترسيخ حالة من الاستقرار، يمكنها أن تحفظ مصالحها طويلة الأمد في ليبيا.
أيضا هناك من جانب آخر، تسارع المتغيرات الدولية والإقليمية؛ فالمنطقة المغاربية وشمال إفريقيا تشهد تحولات سياسية وأمنية متسارعة، لا سيما في ظل الصراع المستمر بين القوى الدولية في منطقة الساحل والصحراء. وبالتالي، تسعى بعض هذه القوى الإقليمية والدولية؛ لاستغلال هذه الفرصة لترسيخ نفوذها في ليبيا، حيث ترى هذه القوى أن استمرار الأزمة دون حل سيزيد من تعقيدات الموقف، ويؤدي إلى مزيد من الفوضى.
تحديات متوقعة
بينما يمثل إعلان المشاركين في اجتماع بوزنيقة المغربية تشكيل حكومة ليبية موحدة- تطورا إيجابيا؛ فإن مستقبل هذا الاتفاق يظل مرتبطا بعدة عوامل، داخلية وخارجية.
ففي حال تحقق سيناريو النجاح في تشكيل الحكومة الموحدة؛ فإن أهم التحديات المتوقعة في حال النجاح في تشكيل حكومة موحدة.. أهمها: المقدرة على تحقيق توافق سياسي؛ أي تحقيق توافق بين مختلف الأطراف الليبية؛ إذ إن هذا قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاستقرار. وبالتالي، ستحتاج الحكومة إلى تقديم حلول عملية لقضايا مثل توزيع الثروة النفطية، وإعادة بناء المؤسسات الأمنية والمدنية، فضلا عن تسوية الخلافات بين المناطق والفصائل المختلفة.
أضف إلى ذلك، المقدرة على إجراء الانتخابات المؤجلة؛ حيث تعتبر الانتخابات العامة، المؤجلة منذ “ثلاث” سنوات، جزءا لا يتجزأ من تحقيق الاستقرار في ليبيا. نجاح الحكومة الجديدة في وضع إطار زمني واضح لإجراء انتخابات حرة وشفافة، سيكون عاملا مُهمًّا في تحقيق الشرعية واستمرار العملية السياسية.
أما في حال وقوع سيناريو الفشل في تشكيل حكومة موحدة؛ فإن التحديات المتوقعة ستكون أكثر تأثيرا على الساحة الليبية بمستوياتها السياسية والاقتصادية.. وأهمها: استمرار محاولات التدخل الخارجي؛ فعلى الرغم من أهمية تشكيل حكومة موحدة، إلا أن التدخلات الخارجية قد تستمر في تعقيد المشهد السياسي في ليبيا، عبر محاولة كل طرف خارجي، دولي أو إقليمي، دعم الأطراف المحسوبة عليه في الداخل؛ إذ تسعى العديد من القوى الإقليمية والدولية إلى حماية مصالحها الاستراتيجية في ليبيا، عبر أطراف داخلية. وقد تؤدي هذه التدخلات إلى عرقلة عمل الحكومة، أو إلى عرقلة تشكيلها، وإثارة المزيد من الانقسامات.
خطوة هامة
في هذا السياق، يمكن القول بأن اجتماع بوزنيقة، بالمغرب، في 18 ديسمبر 2024، يمثل خطوة هامة في مسار الأزمة الليبية؛ خاصةً أنه يأتي في إطار مشهد داخلي وسياق إقليمي ودولي معقد. وكما يبدو، فإن دوافع الأطراف الليبية لعقد هذا الاجتماع تتمحور حول الرغبة في تحقيق الاستقرار وإنهاء الانقسام الداخلي؛ بينما تتعلق الاحتمالات المستقبلية لنتائج هذا الاجتماع، بالمقدرة على تنفيذ المخرجات الخاصة به، والنجاح في تشكيل حكومة موحدة؛ والأهم مقدرة الحكومة الليبية الموحدة على مواجهة التحديات الأمنية والسياسية؛ من حيث إن هذه الحكومة ستواجه تحديات كبرى في مجالات السياسة والأمن وإعادة بناء المؤسسات.
أما عن علاقة هذا الاجتماع بمبادرة ستيفاني خوري، فإن تداخل التوقيتات يثير تساؤلات حول ما إذا كان هناك صراع بين المبادرات المحلية والدولية. وعلى الرغم من ذلك، يبقى الأمل قائما في أن تشهد ليبيا تسوية سياسية شاملة تحقق آمال شعبها في حلحلة الأزمة المستمرة منذ سنوات طوال.