شهدت التحركات التركية في ليبيا، خلال العام الأخير، بعض المؤشرات على وجود تغير واضح في إعادة التموضع بين شرق البلاد وغربها؛ فبعد سنوات من الدعم لمعسكر غرب ليبيا، لاسيما منذ ماجريات حرب طرابلس، بدأت تركيا، خلال الأشهر الأخيرة، تتبنى مواقف أكثر توازنا وانفتاحا على شرق ليبيا.
ويأتي هذا في إطار التقارب الحاصل بين تركيا ومصر، بما يعكس وجود مقاربة جديدة لدى أنقرة في كيفية إدارة مصالحها في ليبيا؛ دون أن يعني ذلك -كما هو واضح- تخليها عن مظاهر نفوذها التقليدي في غرب ليبيا.
الموقف التركي
منذ اندلاع الأزمة الليبية عام 2011، وسقوط نظام معمر القذافي، لعبت تركيا دورا محوريا في تطورات النزاع الليبي. ومع تعاقب السنوات، تطور الموقف التركي بشكل ملحوظ، خاصة مع التغيرات الحاصلة في السياسة الإقليمية والدولية. واحدة من هذه التغيرات الرئيسة تمثلت في التقارب التركي-المصري، الذي جاء بعد سنوات من التوتر بين أنقرة والقاهرة، والذي بات له تأثير مباشر على الدور التركي في الأزمة الليبية، وعلى موقفها من الانقسام السياسي والعسكري الحاصل بين شرق ليبيا وغربها.
وحول التغير في الدور التركي، لنا أن نلاحظ أن تركيا دعمت -في البداية- حكومة الوفاق الوطني التي كانت تمثِّل الغرب الليبي. هذا الدعم لم يكن مقتصرا على الجانب السياسي والدبلوماسي، بل شمل أيضا الدعم العسكري المباشر؛ إذ أرسلت تركيا معدات عسكرية ومستشارين، وأقامت اتفاقيات تعاون دفاعي وبحري مع حكومة الوفاق، ما عزز من نفوذها في المنطقة الغربية في ليبيا. هذا الدعم مكّن قوات حكومة الوفاق من صد هجمات “الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر، الذي كان يحاول السيطرة على العاصمة طرابلس في حملة عسكرية كبرى.
لكن مع مرور الوقت، وظهور مبادرات دولية للتوصل إلى حلول سياسية للأزمة الليبية، بدا أن الموقف التركي بدأ يشهد تحولا تدريجيا؛ حيث أدركت تركيا أن دعمها الحصري لحكومة الوفاق، وحكومة الدبيبة التالية لها، قد لا يكون مستداما على المدى البعيد، خاصة في ظل التغيرات الإقليمية، والضغوط الدولية المتزايدة للدفع نحو حل سياسي يشمل جميع الأطراف الليبية.
التقارب مع مصر
ولعل العامل الرئيس الذي أثَّر في تغير الموقف التركي من الأزمة الليبية، هو التقارب المصري-التركي. فالعلاقات بين تركيا ومصر كانت متوترة منذ الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي في 2013، والذي كانت أنقرة داعما قويا له ولحكومته “الإخوانية”. في السنوات التي تلت، كانت مصر واحدة من أبرز داعمي خليفة حفتر في ليبيا، واعتبرت تركيا لاعبا رئيسا يقف على النقيض من المصالح المصرية في ليبيا.
لكن منذ عام 2021، بدأت العلاقات بين أنقرة والقاهرة تشهد تحسنا تدريجيا، مع تبادل الرسائل الدبلوماسية وزيارات المسئولين. هذا التقارب لم يكن معزولا عن التطورات في الملف الليبي، حيث إن استقرار ليبيا يمثل مصلحة استراتيجية لكل من مصر وتركيا. ومع تحسن العلاقات بين البلدين، بدأت تركيا تظهر رغبة أكبر في التعامل مع جميع الأطراف الليبية، بما في ذلك شرق ليبيا، الذي كان يُعتبر في السابق منطقة نفوذ خصومها.
وقد أدى التقارب المصري- التركي إلى فتح قنوات جديدة للحوار حول الأزمة الليبية، حيث باتت القاهرة وأنقرة تدركان أن استمرار النزاع ليس في مصلحة أي منهما. تركيا، التي كانت تعتمد في السابق على حلفائها في الغرب الليبي، بدأت تتحول نحو مقاربة أكثر توازنا تجاه الأطراف الليبية الأخرى، بما في ذلك قوات الجيش الوطني الليبي في الشرق.
في هذا الإطار، كان التقارب المصري- التركي له تأثير واضح على تحوُّل دور تركيا في ليبيا. أولا، بدأت أنقرة تدرك أن الاستمرار في دعم حكومات الغرب الليبي حصريا قد يؤدي إلى عزلتها إقليميا، خاصةً مع تحسن علاقاتها مع القاهرة. هذا التحوُّل التركي بدا جليا من خلال الخطاب التركي الذي أصبح أكثر دعما للحلول السياسية الشاملة في ليبيا.
تحديات جيواستراتيجية
رغم التحولات الإيجابية في موقف تركيا من الأزمة الليبية، إلا أن هناك العديد من التحديات التي لا تزال تواجهها في محاولتها للعب دور مؤثر في تحقيق الاستقرار؛ للحصول على المزيد من النفوذ التركي.
أولا، ما تزال هناك خلافات عميقة بين الأطراف الليبية المتنازعة، حيث تظل الانقسامات السياسية والعسكرية بين الشرق والغرب قائمة. هذه الانقسامات تجعل من الصعب تحقيق توافق سياسي شامل دون جهود دولية مكثفة.
ثانيا، التدخلات الخارجية من قبل قوى إقليمية ودولية، ما تزال تعقد المشهد الليبي. ورغم تحسن العلاقات بين تركيا ومصر، إلا أن هناك قوى أخرى مثل روسيا والإمارات لها مصالح استراتيجية في ليبيا، وقد تعارض أي تحركات تهدف إلى تقليص نفوذها في البلاد.
ثالثا، التحديات الاقتصادية في ليبيا تضيف بُعدا إضافيا للصراع؛ إذ تعتمد ليبيا بشكل كبير على النفط، وحقول النفط والموانئ أصبحت جزءا من الصراع بين الأطراف الليبية. تركيا، التي أبرمت اتفاقيات بحرية واقتصادية مع حكومات الغرب الليبي، قد تواجه تحديات في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في ظل عدم الاستقرار السياسي الحاصل هناك.. في ليبيا.
وهكذا.. فإن مستقبل الدور التركي في ليبيا يعتمد، إلى حد كبير، على مدى قدرتها على مواصلة التنسيق مع القوى الإقليمية والدولية، وخاصةً مصر. إذا استمر التقارب المصري-التركي، فقد يؤدي ذلك إلى فتح آفاق جديدة للتعاون في ليبيا، بما يسهم في دفع جهود التسوية السياسية. من جانب آخر، ستظل تركيا تسعى للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في ليبيا، سواء في الجانب العسكري أو الاقتصادي.
ويمكن القول إن التغيُّر الحاصل في الموقف التركي من الأزمة الليبية، يعكس تحوُّلا أوسع في السياسة الخارجية التركية، التي باتت تسعى إلى تبني مقاربة أكثر براغماتية وانفتاحا؛ وهو التحوُّل الذي جاء في إطار التقارب مع مصر، الذي وإن كان قد أسهم في إعادة تشكيل الدور التركي في ليبيا، فإنه يمكن أن يحقق كثيرا من المصالح المصرية على حدودها الغربية.