ثقافة

قراءة أولية.. لقصيدة “طحالب تنمو في العزلة” لسامح الحسيني عمر

الشاعر سامح الحسيني عمر الذي صدر له كتابان منذ فترة هما: ديوان “انفجار الروح” و”سيرة الزينبي” لا ينفك يُنْعِمُ البصيرة في تجربة شعرية تمتد في الزمن لنحوٍ من أربعة عقود، وتُراوِحُ في المكان مراوحةَ العاشق المُتيّم.. والمكان هنا أقصى شمال مصر، حيث تشكَّل وجدانه بين الماء والطين، تحت عين القدرة.. في دمياط بلد اكتمال القدرة، كما فسّر اسمها السرياني القديم بعض العارفين.

تجربة الحسيني هي سيرة للتمرد على القوالب، تجربة رفضت منذ البداية غواية اللغة، ولم تقبل الغنائية بأي مبرر؛ فصارت هجاءً متصلا للجوامد وللمطروق، ولم ترتضِ بالمدرك.. بل تطلعت دوما للكشف الصادق.. وإن عزَّ.

في قصيدته “طحالب تنمو في العزلة” يعيدُ الحسيني سيرته الأولى في الولوج إلى ذاته المضمَّخة بالحنين؛ فيمشي على أطراف أصابع ارتيابه موضحا أسبابه “كي لا أزعج الذكريات” ففي تلك المرحلة لا يبدو إيقاظ الذكريات أمرا محمودا؛ إذ تمثل بوعيٍ متقدٍ؛ لتناور الراهن بمهارة لا يمتلكها؛ فتسقطه في هاويتها.. لكن عدم الانصياع لذلك ومحاولات الهروب.. لا تُكلل دائما بالنجاح.. فهناك عوائق لها تأثير الانسحاب والإغراق، كما لها مناعة الحَجْب “وحلٌ وأسوارٌ تمنع الروح من قيامته”. فهذا الثقل “الدنيوي” الذي يحول دون التحقق، في كل تمرد للروح؛ يحتاج إلى حيلة للخلاص.. للمفارقة بالمعروف.. بالنوم الطويل.. الطويل جدا “قرابة عام أو يزيد”.

يقول الحسيني: “أبحثُ في خرائطِ روحي القديمة، عن كهفٍ مناسب. أتسللُ داخله – خارجا نحو عماي الجديد.. وخرسي. أحفرُ عن البدايات البعيدة, في ما سقط سهوا, وعن عمد. دمٌ بدائيٌ, علي ظهر خيلٍ مُسَوَّمَةٍ, نقشٌ ورسومٌ مبهمةٌ, صلصلةُ سيوفٍ كأنَّها جاءت لتقطعَ رءوسَ أفكاري”.

رحلة البحث القديمة المتجددة التي تعتريها “جهالة” الطفولة، والأخطاء الساذجة، والفرص الضائعة في “البدايات البعيدة” ليجد الحسيني أن زمنه يوغل في القدم -ربما لدم هابيل- أو لزمن الفتح العربي، حيث تُقطع رءوس الأفكار التي لم ترتكن إلى المطلق، وتناوئ عن براءتها بالعودة إلى “نقشٌ ورسومٌ مبهمةٌ” في “كهفٍ مناسب” تسكنه الروح المرتحلة.

يرى الحسيني “كنزه” في الرحلة بكل ما اعتراها من آمال تبددت؛ لكن ارتياحه لهذا التفسير ينحسر حين يلفحه الهجير “فاندلعت صحرائي” فيفيق على هول أن المدينة (معشوقته) استقالت من وجودها الآتي؛ في رهان غير مضمون على “خارطة لغدٍ أو مسارٍ ما”.

الماضي ذلك المتغوّل، على بقايا حاضرٍ لا يقوى على الوقوف في وجه تسارع الآني- يوغلُ في الرجوع إلى زمن نفخ الروح في آدم “وعَطَسْتُ” بعد تشكّل الطين “رائحةُ ترابٍ مبلول” وهذا الصراع الذي يتمسك ببدائيته، بين الفرار والتحايل والأَثَرَةِ والتضحيات الواجبة “بين فأر وثعبان وقط وكلب”.

لا ينسى الشاعر لَمْزَ أولئك المتطاولين على مقام الإبداع، وهم خلوٌ من أية موهبة حقيقية؛ لكنهم يملئون العالم ضجيجا بهرائهم المكتسي حُلّة من بُهرج الخديعة. وليتهم يكتفون بذلك؛ بل يتنافسون فيما بينهم؛ إعاقةً لـ”حركة النمل الذي يُعدِّل مساراته”.

هؤلاء الذين يمرحون في مروج الحياة، وينهلون من “غدير علي باب الكهف” الكهف الذي صار ملجأ الذات ومحبسها في آن.. حيث يمثل في الغياب، ويختفي في المثول، ويجادل الشاعر ذاته في هذا الحضور المتضاد، والمفارقة المشوبة بالتردد، والمعاودة إلى ذات اللحن القديم؛ فيما يشبه محاولة الاستشفاء من داء عضال.. لكن الشاعر في النهاية يبرم اتفاقا ما “شريطة أن أكون أنا في الغياب, وتمكث هنا قدر عمري” محاولةً لإنهاء “ذلك الجدل بيننا” بتغيير “قواعد الارتباط”.

لكن ذلك لا يُنهي الصراع الذي يحتدم بتبادل الاتهامات، فلم يكن هذا مقصدك حين “تسللت من جسمك الممدد” هكذا واجهته الذات في مثولها المتقطع؛ دون إدراك لقيمة الغياب الذي  تتخلق منه الذكريات.. مع الإقرار بأن عدم وضوح الرؤية؛ هو من صُنع ثقل الحضور، لا كثرة الغياب.. بينما تتحول الذاكرة المُترَعةُ بالتفاصيل المُسننة؛ حجابا نلتمس أن يذهب “بعيدا كي نري ما نشاء” محاولين تناسي كل الحقائق المؤرّقة؛ حتى لا تدهمنا أمواج تساوم صخر التجربة عن طحالبه الناشبة  في عزلة الروح.

“طحالب تنمو في العزلة” قصيدة تستحق أكثر من قراءة، وترقى لتكون مفتاحا لرؤية الشاعر الكلية للذات وللكون وللوجود الإنساني، كما تصلح بداية مؤسِّسة لمشروع أدبي جديد للمجرّب القدير سامح الحسيني عمر.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock