رؤى

أنس بن النضر.. الخفي شهيد الحكمة الخالدة

هذا أنس بن النضر.. رجل من أغمار الناس.. لا يعرفه الكثيرون.. خلت من ذكره الكتب.. لم يكن من السابقين.. كان إسلامه بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بفترة.. لم يشهد بدرا.. ولم يتصدر في المشاهد.. كان من الأتقياء الأخفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا.. أكثر ما اشتهر به أنه عم أنس بن مالك خادم الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه.. لكن أنس بن النضر رجل آتاه الله الصدق والبصيرة؛ فكان في حسمه أمضى من السيف.. في تلك المواقف التي يسقط فيها في أيدي الرجال، فلا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا – لا يحتاج أنس إلى كبير جهد ليقطع في أمره بما يجب أن يكون.. وما أرى سببا لأن يكون ابن النضر خامد الذكر في كتب المناقب إلا أنه كان خفيا في عمله وطاعته.. في ستر الله خلف الحُجُب إذا أعطى وإذا اجتهد في العبادة وإذا جاد بنفسه التي بين جنبيه لله تعالى؛ حُبًّا في رسول الله.. حتى في المشهد الأخير يوم أحد، لم يُعرف جسده الطاهر من بين الأجساد بعد أن غطته الجراح، فغابت ملامحه تحت آثر السيوف المضمّخة بالدم الزكي.. وما عرفه أحد إلا أخته الربيع بعلامة كانت في بنانه.

لا ندري كيف فات أنس بن النضر حضور يوم بدر..  عدد لا بأس به من أصحاب محمد غابوا عن المشهد الأول للصراع المسلح مع المشركين، حيث لم يدعُ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- إليها أحدًا، ولا نادى منادٍ بكل الناس أن يحشدوا إليها.. بل جاء إليها فقط من “كان ظهره (دابته) حاضرًا”.

لكن أنس تألم لهذا الفوات أشد الألم، كيف لا يكون إلى جوار رسول الله في أولى جولات الحق مع الباطل عسكريا..”والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد؛ ليرين الله ما أصنع”.. هكذا قال، وهكذا أقسم مخلصا.. ورُبَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب؛ لو أقسم على الله لأبره.. وها هو أنس يوم أحد يقاتل أعداء الله دون هوادة.. تكل السيوف في يده، وتفر من أمامه صناديد قريش، وقد دارت الدائرة عليهم؛ لكن أَنَسًا لا يتراجع ولا يني.. ينهزم المشركون وتنكشف عنهم أرض المعركة؛ فيخالف الرماة أوامر رسول الله ويتركوا أماكنهم؛ فيعيد خالد بن الوليد قائد جيش المشركين يوم أحد تنظيم جنوده، ويستولي على جبل الرماة، ويكر بالجيش بعد الفرار؛ فيصيب من المسلمين المنشغلين بجمع الغنائم؛ نصرا خاطفا.. وتترك الحرب النفسية أثرها في جيش المدينة أيضا بعد أن أشاع المشركون أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قد قتل.

تُرى كيف كان وقع الخبر على أنس؟ لا شك أن الأمر كان أقسى بكثير مما نتصور.. لكن أنس لا يتوقف كثيرا للتفكير فيما وقع بالفعل؛ كان دائما ينشغل بما يجب عليه أن يفعل.. لقد استعاد بطلنا في تلك اللحظة ما استقر في وعيه وقلبه من كتاب الله الذي أنزله على رسوله؛ وما كان من أمر هذا الموقف الجلل بعد ذلك وظل باقيا إلى يوم القيامة في كتاب الله “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ”.

وكأني به يدور في أركان ساح الوغى؛ فإذا به يلقى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، قَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ فَقَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ فَقُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ”.

…قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ.. ما أبلغها من عبارة تُلخص سيرة هذه الشخصية العظيمة.. كيف يدعو مقتل الرسول هؤلاء الرجال إلى القعود وترك السلاح، هل حياة بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم تساوي شيئا؟ وهل أفضل من اللحاق به في هذا اليوم؛ اعتذارا يقدّم لله تعالى عن هذا التقصير الفادح الذي جرى بمخالفة الأوامر العسكرية الصارمة، والانشغال بالغنيمة حتى يخلّى بين رسول الله وأعدائه فيقتلوه.. وهل أرجى للمسلم الحق في هذه الفانية من أن يموت على ما مات عليه محمد؟ أي فهم ووعي وبصيرة وحكمة أوتيت يا ابن النضر، ليجري الله على لسانك تلك العبارة الحاسمة؟

يندفع أنس للقتال بقوة هائلة، أكبر بكثير من تلك التي بدأ بها المعركة، قائلا: “اللَّهُمُّ إِنِّي أعَتْذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ، يَعْنِي: الْمُسْلِمِينَ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلاءِ، يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ”.

ثُمَّ يتَقَدَّمَ، فَيسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَيقَول له: أَيْ سَعْدٌ، هَذِهِ الْجَنَّةُ، وَرَبِّ أَنَسٍ أَجِدُ رِيحَهَا دُونَ أُحُدٍ، يقول سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الذي اهتز لموته عرش الرحمن: “فَمَا اسْتَطَعْتُ مَا صَنَعَ، فَقَاتَلَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسِيْفٍ، أَوْ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ، وَمَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَتْهُ أُخْتُهُ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ إِلا بِبُنَانِهِ”.

هذا أنس بن النضر، رجل تلهم سيرته الأجيال، رجل تشرف به أمة محمد، رجل يضيء لنا الطريق في أحلك مراحله، بصدق عزيمة وإخلاص وتجرد وإقدام لا نظير له؛ نموذج رفع الله ذكره -ومن حذا حذوه- قرآنا يتلى إلى يوم الناس هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ إذ يقول: “مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock