”تلعب اللغة دورا مركزيا في تشكيل الخبرة والمعرفة الإنسانية وبناء الروابط والعلاقات الاجتماعية. فاللغة ليست أداة للتواصل كما يتصور البعض بل أداة رئيسية لبناء العوالم الاجتماعية“.
يهدف المقال إلى تحليل ونقد اللغة في سياقها الاجتماعي، من خلال التأكيد على أن الواقع يُبنى من خلال الخطاب. ويؤكد أن فهمنا للعالم لا يتشكل من خلال الحقائق الموضوعية؛ ولكن من خلال التفاعل بين اللغة والواقع الاجتماعي.
في الجزء الأول من المقال تناولنا بالتحليل والدراسة الاستراتيجيات والتكتيكات الخطابية. من خلال مناقشة مجموعة من العناصر نستكملها في هذا الجزء:
7– تحليل السرد: تحليل السرد هو أسلوب يركز على جانب سرد القصص في الخطاب. وهو يدرس كيف يقوم الأفراد ببناء ونقل المعنى من خلال السرد، سواء في شكل مكتوب أو شفوي. غالباً ما يتضمن هذا النهج تحليل السرد الشخصي، أو المقابلات، أو النصوص الأدبية لفهم كيف يفهم الأفراد تجاربهم ويبنون هوياتهم من خلال سرد القصص.
8- تحليل الخطاب المتعدد الوسائط: تحليل الخطاب المتعدد الوسائط هو أسلوب يأخذ في الاعتبار مختلف وسائل الاتصال التي تتجاوز اللغة فقط، مثل: المرئيات، والإيماءات، والأصوات. وهو يستكشف كيف تعمل وسائل مختلفة معاً لخلق المعنى والتأثير على التفسير. وغالبا ما يتضمن هذا النهج تحليل مجموعة من النصوص المتعددة الوسائط، مثل: الإعلانات، أو الأفلام، أو مواقع الانترنت، لفهم كيفية بناء المعنى من خلال التفاعل بين وسائل مختلفة.
9- تحليل الخطاب الاجتماعي المعرفي: يجمع تحليل الخطاب الاجتماعي المعرفي بين الرؤى المستمدة من علم النفس الاجتماعي واللغويات المعرفية لفحص كيفية استخدام اللغة لبناء ونقل المعنى الاجتماعي. وهو يستكشف كيف تنعكس الهويات الاجتماعية للأفراد ومعتقداتهم ومواقفهم في استخدامهم للغة. وغالبا ما يتضمن هذا النهج تحليل المحادثات التي تحدث بشكل طبيعي أو النصوص المكتوبة للكشف عن العمليات المعرفية والعوامل الاجتماعية التي تؤثر على استخدام اللغة.
هذه مجرد أمثلة قليلة على الأساليب والمناهج المستخدمة في تحليل الخطاب. حيث تقدم كل طريقة رؤى فريدة حول كيفية استخدام اللغة، ويعتمد اختيار الطريقة على سؤال البحث وطبيعة البيانات التي تُحلل. ومن خلال استخدام هذه الأساليب، يمكن للباحثين اكتساب فهم أعمق للأبعاد الاجتماعية والثقافية والإيديولوجية للخطاب.
10- الحركات الاجتماعية والأنشطة: كما يطبق تحليل الخطاب لدراسة الحركات الاجتماعية والأنشطة. من خلال تحليل اللغة المستخدمة في شعارات الاحتجاج والبيانات والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن للباحثين اكتساب رؤى حول الاستراتيجيات الخطابية التي يستخدمها النشطاء لحشد الدعم وتحدي الإيديولوجيات السائدة وإحداث التغيير الاجتماعي. ويمكن أن يساعد تحليل الخطاب في الكشف عن الطرق التي تُستخدم بها اللغة لبناء الهويات الجماعية وتأطير القضايا الاجتماعية وتشكيل الخطاب العام.
11- التعليم والخطاب الصفي: يستخدم تحليل الخطاب في البحث التربوي لفحص التفاعلات في الفصول الدراسية والطرق التي تُستخدم بها اللغة لبناء المعرفة وديناميكيات القوة والتسلسلات الهرمية الاجتماعية. ومن خلال تحليل المناقشات في الفصول الدراسية والتفاعلات بين المعلم والطالب والسياسات التعليمية، ويمكن للباحثين اكتساب رؤى حول كيفية استخدام اللغة لإعادة إنتاج أو تحديد البنى الاجتماعية والتفاوتات القائمة داخل البيئات التعليمية.
12- الخطاب والقطاع الصحي: يطبق تحليل الخطاب في مجال الصحة والطب، فقد استخدم لفحص التفاعلات بين الطبيب والمريض، والاستشارات الطبية، والتواصل الصحي لفهم كيفية استخدام اللغة لبناء سرديات المرض، والتفاوض على ديناميكيات القوة، وتشكيل نتائج الرعاية الصحية. ومن خلال تحليل اللغة المستخدمة في هذه السياقات، يمكن للباحثين الكشف عن الطرق التي تؤثر بها خطابات الصحة والمرض على ممارسات الرعاية الصحية، وتجارب المرضى، والتفاوت في الصحة.
13- الخطاب والقطاع التنظيمي: يستخدم تحليل الخطاب في الدراسات التنظيمية لفحص الطرق التي تُستخدم بها اللغة لبناء والحفاظ على الهويات التنظيمية وعلاقات القوة والثقافة التنظيمية. من خلال تحليل الوثائق التنظيمية والاجتماعات وممارسات الاتصال، يمكن للباحثين اكتساب رؤى حول كيفية استخدام اللغة لتشكيل الممارسات التنظيمية وعمليات صنع القرار وتجارب الموظفين. يمكن أن يساعد تحليل الخطاب في الكشف عن الاستراتيجيات الخطابية التي تستخدمها المنظمات للحفاظ على القوة والسيطرة، فضلا عن الطرق التي تُستخدم بها اللغة لمقاومة وتحدي الخطابات التنظيمية المهيمنة.
14- الدراسات الإعلامية والثقافية: يستخدم تحليل الخطاب على نطاق واسع في الدراسات الإعلامية والثقافية لفحص التمثيلات الإعلامية والنصوص الثقافية والثقافة الشعبية. ومن خلال تحليل النشرات والمقالات الإخبارية، والإعلانات، والأفلام، والبرامج التلفزيونية، يمكن للباحثين الكشف عن الممارسات الخطابية التي تشكل الرأي العام وتعزز أو تتحدى المعايير الثقافية وتساهم في بناء الهويات الاجتماعية. كما يمكن أن يساعد تحليل الخطاب في الكشف عن الإيديولوجيات الأساسية وعلاقات القوة والمعاني الاجتماعية المضمنة في النصوص الإعلامية والثقافية.
خلاصة القول، إن تحليل الخطاب أداة متعددة الاستخدامات وقيمة في علم الاجتماع يمكن تطبيقها على مجموعة واسعة من الظواهر والقضايا الاجتماعية. ومن خلال تحليل استخدام اللغة والممارسات الخطابية، يمكن للباحثين اكتساب رؤى حول الطرق التي تُبنى بها الهياكل الاجتماعية وديناميكيات القوة والتفاوتات والحفاظ عليها أو تحديها في سياقات مختلفة. ويقدم تحليل الخطاب فهما دقيقا لكيفية تشكيل اللغة وانعكاسها للواقع الاجتماعي، ما يوفر رؤى قيمة للبحث الاجتماعي والتغيير الاجتماعي.
وهكذا يركز تحليل الخطاب النقدي على التحقيق في الطرق التي تُمارس بها القوة الاجتماعية والهيمنة وعدم المساواة، وإعادة إنتاجها، ومقاومتها أحيانا من خلال فحص أشكال الاتصال فيما يتعلق بالسياقات الاجتماعية والسياسية.
إن تحليل الخطاب النقدي ليس أسلوبا معينا؛ بل هو موقف نقدي تجاه استخدام ممارسات الخطاب للحفاظ على الوضع الراهن في علاقات القوة. وبالتالي، يدمج تحليل الخطاب النقدي دراسات من وجهات نظر وأساليب مختلفة في دراسات الخطاب، بما في ذلك تحليل المحادثة، وتحليل الحجج، وبراغماتية الخطاب، وتحليل الخطاب المتعدد الوسائط.
فاللغة هي جزء من المجتمع، وليست خارجة عنه بصورة ما، وثانيا أن اللغة عملية اجتماعية، وثالثا أن اللغة عملية يتحكم فيها المجتمع، أي إنها تخضع لتحكم جوانب أخرى (غير لغوية) في المجتمع. أما الظواهر اللغوية فهي اجتماعية، بمعنى أنه حيثما تكلم الناس أو أنصتوا أو كتبوا أو قرأوا، فإنما يفعلون ذلك بطرائق يحددها المجتمع، ولها آثار اجتماعية، وحين يصل وعي الناس بفرديتهم إلى ذروته ويتصورون أنهم برئوا إلى أقصى حد من الآثار الاجتماعية وبالأخص (الأسرية)، فإنهم يستخدمون اللغة أيضا بطرائق تخضع للأعراف الاجتماعية، والظواهر الاجتماعية اللغوية، من ناحية أخرى، بمعنى أن النشاط اللغوي الذى يجري في السياقات الاجتماعية ليس مجرد انعكاس أو تعبير عن العمليات والممارسات الاجتماعية، بل يمثل جزءا من هذه العمليات والممارسات، كالمنازعات حول معنى بعض العبارات: الاجتماعية، أو الثقافية، أو السياسية.
– المراجع المعتمدة:
– نورمان فيركلف: اللغة والسلطة، ترجمة: محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2555، ط1، 2016.
– نورمان فاركلوف: تحليل الخطاب (التحليل النصي في البحث الاجتماعي)، ترجمة: طلال وهبه، مراجعة: نجوى نصر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2009.
– سعيد بكار: التحليل النقدي للخطاب: مفهوماته ومقارباته، مجلة الخطاب، المجلد: 16، العدد: 2، الجزائر، جوان 2021.
– عبد الخالق مرزوقي: أحاديث نورمان فيركلف حول اللغة والسلطة، موقع ساقية، 15 أغسطس 2021.
– مؤلف جماعي: التحليل النقدي للخطاب: مفاهيم ومجالات وتطبيقات، إشراف وتحرير: محمد يطاوي، المركز الديمقراطي العربي، ألمانيا (برلين)، ط1، 2019.
– Mr Edwards: Exploring Discourse Analysis: Language and Social Reality, Easy Sociology, Research Methods, Sociology of Language, April 9, 2024 – Updated on May 15, 2024. https://easysociology.com/sociology-of-language/exploring-discourse-analysis-language-and-social-reality/
– Ortega Alcázar: Visual Research Methods (Discourse Analysis), International Encyclopaedia of Housing and Home, 2012.
https://www.sciencedirect.com/topics/social-sciences/discourse-analysis
– T. van Leeuwen: Critical Discourse Analysis, Encyclopaedia of Language & Linguistics (Second Edition), 2006. https://www.sciencedirect.com/topics/social-sciences/critical-discourse-analysis
– Eric Mayor, Lucas Bietti: Ethnomethodological studies of nurse-patient and nurse-relative interactions: A scoping review, International Journal of Nursing Studies, 2017. https://www.sciencedirect.com/topics/social-sciences/critical-discourse-analysis
– Discourse Analyzer: Introduction to Social Constructionism in Discourse Analysis, April 6, 2024. https://discourseanalyzer.com/introduction-to-social-constructionism-in-discourse-analysis/