رؤى

الحوار الإلهي.. والانتقال من التحدي إلى الإعجاز

لعل المتدبر في آيات التنزيل الحكيم، له أن يُلاحظ أن كافة القضايا التي دعا إليها القرءان الكريم، كان الحوار هو الوسيلة المُثلى في الإقناع بها؛ وهو ما يتبدى بوضوح في قضايا من قبيل مسائل التوحيد والإيمان والبعث والنشور والنبوة والقرءان ذاته.. وغير ذلك من قضايا، كان الحوار هو وسيلة الإقناع بها.

وقد سلك التنزيل الحكيم طُرقا متعددةً، في إثبات أنه من عند الله سبحانه وتعالى؛ فكان الحوار الإلهي مع “الناس” مثلما كان مع الملائكة والنبيين والشيطان أيضا. ولعل الوعد الإلهي واضح في هذا الشأن؛ حيث يقول سبحانه: “سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” [فصلت: 53].

الوعد الحق

هذا الوعد الإلهي ينبني على أن الله تبارك وتعالى “حق”، وأن القرءان الكريم “حق” لأنه من عنده سبحانه؛ وهو ما يتضح من خلال التأكيد: “حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ”. إذ، الحق هو “الشيء الواضح الثابت الذي لا يتغير” بل وأنه الأصل الذي قامت عليه أمور الخلق كلها.

ولعل مفهوم الحق، هذا يتبين بوضوح عبر قوله تعالى: “إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” [التوبة: 40]. إذ عبر السياق القرءاني في هذه الآية الكريمة، لنا أن نُلاحظ دقة الصياغة القرءانية في التفرقة بين “كَلِمَةُ ٱللَّهِ” و”كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ”؛ فهذه الأخيرة جعلها الله سبحانه هي “ٱلسُّفۡلَىٰۗ”.. بمعنى أنها، وإن كانت في بعض الأحايين قد تكون “عليا”، إلا أن الله تعالى “جَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ”؛ أي إنه “قانون إلهي”.

هذا، في حين أن “كَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ” إذ -هاهنا- نجد أن “كَلِمَةُ” مبتدأ، أي إنها في أصلها “هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ”، وهي ليست جعلًا كالكلمة الأولى “كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ”؛ وهو مايؤشر إلى أن “الحق ثابت، وأنه الأصل الذي قامت عليه أمور الخلق كلها”.

حوار التذكير

أما عن الطُرق التي وردت في القرءان لإثبات أنه من عند الله.. فإن من بينها: الرد على المُنكرين؛ أي منكري الرسالة والرسول كليهما.. وهو الرد الذي كنا قد تناولناه في حديثنا السابق “الحوار الإلهي والرد على مُنكري الرسالة المحمدية”.

وهنا، نُضيف بأن الخطاب القرءاني، في الرد على شبهات المُنكرين، يتجلى في مزيد من “الحوار”، عبر التذكير بما عُرِف عن الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه كان “لا يتلو” و”لا يخط”، كما في قوله عزَّ من قائل: “وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ” [العنكبوت: 48]. وهنا ورد الفعل “تَتۡلُواْ”؛ والتلاوة هي “إعادة المكتوب أو المسموع شفاهة، كما هو دون تفسير أو توضيح أو حتى تحريف”.

فكأن “تتلوا” فعل يؤشر إلى ما يأتي بعده، أي فكأن قراءتك لما هو مكتوب تجعل قولك تاليا لما رأيت، أو سمعت. ثم، يرد التأكيد بعدم الكتابة “وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ” وهو تأكيد لأن الحرف التالي له مباشرة هو “إِذٗا” الدالة على نتيجة المقدمات البرهانية في أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان “لا يتلو” و”لا يخط”. أما ختام الآية الكريمة “إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ”، هو تأكيد على تأكيد؛ أي لو كان الرسول “يتلو” أو كان “يخط”، لكان حتما لهم العُذر في الارتياب، حيث الارتياب لا يعني مجرد الشك، ولكن “الشك مع اتهام”.

إلا أن الحوار الإلهي لا يتوقف عند هذا الحد، من الرد على مُنكري الرسالة والرسول كليهما.. بل يُزيد على ذلك بأن الأمر أساسه مشيئة الله؛ ففي مواجهة ما يُنكره هؤلاء، يأتي التنزيل الحكيم بقولهم بداية، كما في قوله سبحانه: “وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَاتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَيۡرِ هَٰذَآ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ…” [يونس: 15].

ومن ثم، ما كان من المولى عزَّ وجل إلا أن أمر رسوله الكريم بأن يقول قولين متتالين؛ الأول، يَرِد في سياق الآية الكريمة نفسها: “… قُلۡ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَآيِٕ نَفۡسِيٓۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۖ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ” [يونس: 15]؛ أما القول الثاني، فيرد في الآية التالية لهذه الآية مباشرة: “قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ” [يونس: 16]؛ وهو ما يؤكد ـ من جديد ـ بأن الأمر أساسه مشيئة الله، بدليل أنه لبث عمرا لا يُحدثهم بشيْ مما ينكرونه عليه.

التحدي والإعجاز

هنا، ينتقل التنزيل الحكيم من حوار التذكير، ذي الدلالات الواضحة على إثبات أن القرءان الكريم هو تنزيل من الله العزيز الحكيم، إلى مستوى آخر من الحوار.. إنه حوار التحدي والإعجاز، في مواجهة مُنكري الرسالة والرسول كليهما.

ولعل المُلاحظ أن التحدي والإعجاز، أو بالأحرى التحدي بغرض الإعجاز، في مواجهة هؤلاء المُنكرين، يحدث بمستويات مختلفة ودرجات متفاوتة؛ إذ، يبدأ بالمُطالبة بِمِثل القرءان الكريم، كما في قوله سبحانه: “أَمۡ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُۥۚ بَل لَّا يُؤۡمِنُونَ ٭ فَلۡيَأۡتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثۡلِهِۦٓ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ” [الطور: 33-34].. ثم، ينتقل إلى المُطالبة بـ”عشرِ” سورٍ مِّثْلِهِ، كما في قوله تعالى: “أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَيَٰتٖ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ” [هود: 13].. ثم، المُطالبة بـ”سورة” واحدة فقط مِّثْلِهِ، كما في قوله عزَّ وجل: “أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ” [يونس: 38].. وأيضا، في قوله عزَّ من قائل: “وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ” [البقرة: 23].

ولنا أن نُلاحظ أن السياق القرءاني في هذه الآية الأخيرة [البقرة: 23]، والآية الكريمة التي تليها مباشرة، تنفي عدم القدرة على الإتيان “بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ”؛ يقول سبحانه: “فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ” [البقرة: 24].

ثم، من بعد ذلك، يحسم التنزيل الحكيم الأمر بقوله تبارك وتعالى: “قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا” [الإسراء: 88]. ولم يكتف التنزيل الحكيم بذلك التحدي والإعجاز، لكن الله تعالى تعهد بحفظ هذا الذكر، بقوله سبحانه: “إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ” [الحجر: 9].

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock