في حديثنا حول “الحوار الإلهي.. والانتقال من التحدي إلى الإعجاز”، وصلنا إلى انتقال التنزيل الحكيم من حوار التذكير، ذي الدلالات الواضحة على إثبات أن القرءان الكريم هو تنزيل من الله العزيز الحكيم، إلى مستوى آخر من الحوار.. هو حوار التحدي والإعجاز، في مواجهة مُنكري الرسالة والرسول كليهما.
وأكدنا -هناك- على مُلاحظة أن التحدي والإعجاز، أو بالأحرى التحدي بغرض الإعجاز، في مواجهة هؤلاء المُنكرين، يحدث بمستويات مختلفة ودرجات متفاوتة؛ إذ يبدأ بالمُطالبة بِمِثل القرءان الكريم، كما في قوله سبحانه: “أَمۡ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُۥۚ بَل لَّا يُؤۡمِنُونَ ٭ فَلۡيَأۡتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثۡلِهِۦٓ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ” [الطور: 33-34].. ثم، ينتقل إلى المُطالبة بـ”عشرِ” سورٍ مِّثْلِهِ، كما في قوله تعالى: “أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَيَٰتٖ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ” [هود: 13].. ثم، المُطالبة بـ”سورة” واحدة فقط مِّثْلِهِ، كما في قوله عزَّ وجل: “أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ” [يونس: 38].. وأيضا، في قوله عزَّ من قائل: “وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ” [البقرة: 23].
ولنا أن نُلاحظ أن السياق القرءاني في هذه الآية الأخيرة [البقرة: 23]، والآية الكريمة التي تليها مباشرة، تنفي عدم القدرة على الإتيان “بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ”؛ يقول سبحانه: “فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ” [البقرة: 24].
السياق القرءاني
هنا، نود التأكيد على عددٍ من النقاط بخصوص السياق القرءاني، في هذه الآيات الكريمة..
من هذه النقاط، بداية، أن الآيات الثلاث [هود:13، يونس: 38، البقرة: 23]، تأتي خاتمة كل منها بالعبارة القرءانية الدالة على التحدي “إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ”؛ وهي دلالة على عدم صحة قولهم، الذي يأتي في مُفتتح آيتين “أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ”، أو الارتياب بشأن هذا القرءان في مُفتتح الآية الثالثة “وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا”؛ حيث الارتياب لا يعني مجرد الشك، ولكن “الشك مع اتهام”، تمامًا كالاتهام بـ”ٱفۡتَرَىٰهُۖ”. وهو ما يعني أن التحدي هنا، يتمثل في إثبات صحة هذه الاتهامات عبر الإتيان “بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ”، أو حتى “بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ”.
من هذه النقاط أيضا ما يتعلق بالفارق بين “مِّثۡلِهِۦ” في سورتي هود ويونس، وبين “مِّن مِّثۡلِهِۦ” في سورة البقرة. ومن المنظور اللساني، فإن “مِّثۡلِهِۦ” في “بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ”، أو “بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ”، تُشير إلى محاكاة الشيء من خلال نظير مُشابه له؛ حيث المماثلة المطابقة في الذات والصفات؛ كما في قوله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَيۡهِ تُرَابٞ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ…” [البقرة: 264].. وفي قوله تعالى: “وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ…” [الأعراف: 176].
أما “مِّن مِّثۡلِهِۦ”، فتؤشر إلى احتمال أن يكون هناك أمثال للشيء، والمطلوب الإتيان بشيء من تلك الأمثال مُشابه له. ولأن هذا القرءان لم ولن يوجد مثيل له، كان من المنطقي أن يأتي السياق القرءاني نافيا إمكانية الإتيان “بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ”؛ إذ لم يكتف المولى تبارك وتعالى بالتحدي “إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ”، ولكن يأتي السياق القرءاني نافيا تلك الإمكانية “فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ…”.
ثم من هذه النقاط كذلك، انتقال مستوى الحوار الإلهي، في هذه الآيات الثلاث، من مستوى الحوار مع “الغائب” إلى التوجه بالحوار المباشر إلى مُنكري الرسالة والرسول كليهما. ففي سورتي هود ويونس، نُلاحظ أن مُفتتح الآيتين يتضمن الحديث عن الغائب “أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ”؛ وبالتالي، كان من المنطقي أن يُوجَّه الرسول عليه الصلاة والسلام بـ”الرد” على هذا الاتهام بالأمر الإلهي “قُلۡ فَأۡتُواْ…”. أما في آية سورة البقرة، كان الحوار الإلهي مُباشرا “فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ”.
ولعل ذلك يوضح لماذا ورد التعبير القرءاني “وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم…” في سورتي هود ويونس، في حين ورد التعبير القرءاني “وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم…” في سورة البقرة؛ إذ في سورتي هود ويونس، كان من المنطقي أن يكون التحدي بمن يستطيع “الافتراء”، مثلما قالوا على الرسول الكريم “أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ”؛ خاصةً أن الحوار الإلهي يجري عبر توجيه الرسول عليه الصلاة والسلام بـ”الرد” على هذا الاتهام بالأمر الإلهي “قُلۡ فَأۡتُواْ…”. وهذا يعنى أن التحدي هنا، لمن قالوا هذا القول، أن يدعوا من يستطيع الافتراء بمثل الافتراء الذي قدمه محمد بن عبد الله.
أما في سورة البقرة، ومن حيث إن الحوار الإلهي هو حوار مباشر مع مُنكري الرسالة والرسول كليهما، كان من المنطقي أن يكون التحدي بدعوة “الشهداء”. لماذا؟
بداية، إذا كان الشهداء هم في صيغة الجمع من شهيد؛ لذا فإن مصطلح شهداء يدل على أن شهادة هذا المجموع من الأشخاص هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر”، أي إن لديهم “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”.. أو لنقل: إن شهادتهم “شهادة حضورية”.
وقد ورد مصطلح “شهداء”، في التنزيل الحكيم، في ثمانية عشر موضعا، بالإضافة إلى موضعين اثنين ورد فيهما المصطلح في صيغة “شهدائكم”.
بالنسبة إلى هذا الأخير، يقول سبحانه: “وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ” [البقرة: 23]. وهنا، لنا أن نؤكد على أن مصطلح “شهداء” لا يُطلق إلا على من يصح أن يُشاهد ويشهد، فيتحمل بالمشاهدة ويؤدي الشهادة، وذلك لا يتحقق ـ على خلاف ما يقول البعض من المفسرين القدامى ـ إلا على الأشخاص، وليس على الأوثان.
ومن ثم، فإن التعبير القرءاني “ٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم”، الذين من المفترض أن تكون شهادتهم “شهادة حضورية”؛ هذا التعبير، يأتي ليحمل في مضمونه التحدي والاستخفاف بهؤلاء الذين يوجه إليهم الخطاب القرءاني في الآية الكريمة؛ التحدي كما يتبدى في ختام الآية “إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ”، والاستخفاف عبر الوصف “مِّن دُونِ ٱللَّهِ”، حيث إن “الدونية” تُشير إلى الأقل في المكانة، كما في قوله عزَّ وجل: “لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ…” [آل عمران: 28].
وللحديث بقية.