دانت عدة أطراف في ليبيا واقعة “تدنيس” العلم الأمازيغي، من قبل بعض الشباب الذين ساروا بسياراتهم فوق العلم، في العاصمة طرابلس، خلال الاحتفال بذكرى 17 فبراير؛ وهو ما سوف ينعكس سلبا على الاستقرار الداخلي والأمن المجتمعي، بإثارة نعرات قبلية وعرقية. وقد اتضح ذلك، من خلال ما أدت إليه الحادثة، التي انتشرت عبر صفحات التواصل الاجتماعي، إلى قطع طريق “طرابلس- نالوت”، وحرق إطارات عند مفترق الزنتان، أكبر المدن الأمازيغية في غرب ليبيا.
ورغم أن حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، في غرب ليبيا، التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة، قد دانت الحادثة، وعبر عن استنكارها الشديد للاعتداء على العلم الأمازيغي.. إلا أن إشكاليات المكون الأمازيغي في غرب ليبيا، ما تزال تمثل أحد أهم القضايا الاجتماعية والسياسية التي تلقي بظلالها على المشهد الليبي المعاصر.
إشكاليات الأمازيغ
يعاني الأمازيغ من تهميش تاريخي في البلاد؛ ومع ذلك، شهدت السنوات الأخيرة تحولا ملحوظا في تعامل السلطات الليبية مع هذه القضية، لا سيما مع انفتاح حكومة الوحدة الوطنية التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة على المكون الأمازيغي.
فالأمازيغ، الذين يعتبرون من أقدم الشعوب التي سكنت منطقة شمال أفريقيا، يشكلون جزءا لا يتجزأ من الهوية الليبية. ولكن على مر العقود، تعرّضت الهوية الأمازيغية للتهميش والإقصاء، خصوصا خلال فترة حكم معمر القذافي. فقد عمل النظام السابق على تقليص حضور الأمازيغ في الحياة السياسية والاجتماعية، وحُرِموا من حقوقهم الثقافية واللغوية، كما منعوا من استخدام لغتهم (تاشلحيت)، في التعليم والإعلام.
ومنذ سقوط نظام القذافي، في عام 2011، حاول الأمازيغ استعادة حقوقهم وتعزيز وجودهم في الساحة الليبية. رغم بعض النجاحات في هذا المجال، لا تزال هناك العديد من التحديات التي تواجههم، منها:
من جانب، التهميش السياسي والاقتصادي؛ حيث ما يزال الأمازيغ يواجهون صعوبات، في الحصول على تمثيل سياسي عادل ضمن المؤسسات الحكومية. في ظل التغيرات السياسية المتلاحقة، لم ينجح الأمازيغ في الحصول على تمثيل مؤثر في الحكومات المتعاقبة. رغم مساهماتهم الكبيرة في الانتفاضة الليبية ضد القذافي، لم يضمّنوا بشكل كافٍ في العمليات السياسية اللاحقة، ما أدى إلى شعورهم بالإقصاء وعدم الاعتراف بجهودهم.
أضف إلى ذلك، أن المناطق التي يعيش فيها الأمازيغ، خاصة في جبال نفوسة وغرب ليبيا، تعاني من نقص في التنمية الاقتصادية والبنية التحتية؛ ويعاني سكان هذه المناطق من قلة فرص العمل، وضعف الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم، وهو ما يزيد من تفاقم التوترات الاجتماعية ويعمق الإحساس بالتمييز.
من جانب آخر، الصراع القبلي والإثني؛ إذ تُمثل الهوية الأمازيغية قضية حساسة في ليبيا، حيث تتداخل الصراعات القبلية مع الإشكاليات الإثنية. العلاقات بين الأمازيغ وبعض القبائل العربية في غرب ليبيا شهدت توترات عديدة، خاصةً في فترة ما بعد عام 2011. هذه التوترات تعرقل مساعي الأمازيغ للاندماج في المشهد السياسي الليبي، وتَحُدّ من قدرتهم على المطالبة بحقوقهم بشكل جماعي.
وبالرغم من الحديث المتزايد عن حقوق الأمازيغ بعد “الثورة”، فإن الحقوق الثقافية ما زالت غير محمية بشكل كامل؛ فما تزال اللغة الأمازيغية غير معترف بها كلغة رسمية في البلاد، ولا توجد سياسات واضحة لتعزيز استخدامها في التعليم أو الإعلام. هذا الحرمان الثقافي يزيد من شعور الأمازيغ بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية في ليبيا.
دوافع الدبيبة
في ظل هذه الإشكاليات، شهدت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة انفتاحا ملحوظا على المكون الأمازيغي، وهو ما يمكن تفسيره بعدة عوامل:
من جهة، محاولة تحقيق الاستقرار؛ حيث إن أحد الأسباب الرئيسة لانفتاح حكومة الدبيبة على الأمازيغ، هو الرغبة في تحقيق الاستقرار الداخلي. الحكومة تواجه تحديات هائلة في توحيد البلاد بعد سنوات من الصراع والفوضى، وتدرك أن تهميش أي مكون اجتماعي أو إثني قد يؤدي إلى تأجيج النزاعات وزيادة التوترات.
لهذا السبب، تسعى الحكومة إلى فتح قنوات الحوار مع مختلف المكونات الليبية، بما في ذلك الأمازيغ، لضمان استقرار النظام السياسي. بل، من خلال انفتاحه على الأمازيغ، يسعى الدبيبة إلى كسب دعم هذا المكون لتعزيز موقفه السياسي في مواجهة منافسيه، خاصةً في شرق ليبيا. دعم الأمازيغ قد يمنحه قوة إضافية في المشهد السياسي الداخلي، ويعزز فرصته في الحصول على تأييد شعبي أوسع، والاستمرار في منصبه حتى إجراء الانتخابات.. المؤجلة.
من جهة أخرى، الضغط الدولي والمحلي؛ فمنذ الثورة الليبية، تمارس منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني ضغوطا متزايدةً على الحكومات الليبية، للاعتراف بحقوق الأمازيغ وحمايتها. كذلك، يأتي الضغط من الداخل الليبي، حيث إن الأمازيغ باتوا أكثر تنظيما وقدرة على المطالبة بحقوقهم بشكل علني.
الدبيبة، في سياق سعيه للحفاظ على موقعه والاعتراف الدولي، يدرك أهمية الاستجابة لهذه الضغوط من خلال تعزيز الحوار مع الأمازيغ، ومنحهم بعض الحقوق التي حُرموا منها لسنوات.
دلالات الانفتاح
التحولات التي شهدتها حكومة الوحدة الوطنية في تعاملها مع الأمازيغ، تحمل دلالات هامة على عدة مستويات:
من ناحية، إعادة رسم المشهد السياسي؛ وذلك من حيث إن انفتاح الحكومة على الأمازيغ يعكس تحولا في الأولويات السياسية في ليبيا، بعد سنوات من الفوضى. الحكومة تسعى إلى بناء جسور التواصل مع مختلف المكونات المجتمعية، خاصةً في غرب ليبيا، لضمان الاستقرار؛ وهذا التوجه قد يؤدي إلى إعادة رسم المشهد السياسي من خلال منح الفئات المهمشة تمثيلا أكبر.
إذ إن انفتاح حكومة الدبيبة على الأمازيغ قد يؤدي إلى تعزيز الاستقرار في المناطق الغربية من البلاد، حيث يشكل الأمازيغ جزءا كبيرا من السكان. من خلال تلبية بعض مطالبهم والاعتراف بحقوقهم، يمكن أن تسهم الحكومة في تقليل التوترات السياسية والإثنية في هذه المناطق.
في هذا الإطار.. يمكن القول إن إشكاليات المكون الأمازيغي في غرب ليبيا، هي جزء من التحديات الاجتماعية والسياسية التي تواجه ليبيا الحديثة. وكما يبدو، فإن حكومة الوحدة الوطنية التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة أدركت أهمية التعامل مع هذه الإشكاليات من خلال انفتاحها على الأمازيغ. لكن، رغم التقدم الذي أحرز، ما تزال هناك تحديات كبيرة تواجه الأمازيغ في الحصول على حقوقهم الثقافية والسياسية، ويظل المستقبل مفتوحا على احتمالات متعددة.