لعل المثال البالغ الدلالة والذي يُعد من أبرز الحوارات القرءانية، التي تحمل معاني عميقة، هو الحوار الإلهي مع إبليس، ليس فقط حول خلق آدم عليه السلام؛ ولكن أيضا حول الأمر الإلهي بالسجود لآدم. إذ، يُعدّ هذا الحوار من أولى المواقف التي جسدت معركة الحق مع الباطل، كما أظهر لنا أبعاد الصراع النفسي والفكري، بين الخضوع لأمر الله، وبين الكبرياء والاستكبار والعصيان من جانب إبليس.
وقد وصلنا في الحديث السابق “الحوار الإلهي.. وفلسفة السجود لآدم عليه السلام”، إلى رفض إبليس السجود لآدم؛ وأن هذا الرفض والعصيان للأمر الإلهي، جاء نتيجة أن إبليس “ٱسۡتَكۡبَرَ” فقد اعتبر نفسه أفضل من آدم؛ حيث أظهر إبليس تكبره لأنه مخلوق من نار، وعدم قبوله لفكرة أن يُفضَّل مخلوق “طيني” عليه.
ولعل هذا ما يتبدّى بوضوح، في أكثر من موضع في آيات التنزيل الحكيم:
في قوله عزَّ من قائل: “وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ ٭ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ” [الأعراف: 11-12].. أيضًا، في قوله عزَّ وجل: “وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِينٗا” [الإسراء: 61].
حوار إبليس
ولنا أن نُلاحظ الإصرار الإبليسي على الاستكبار، وتخيله بأن النار خيرٌ من الطين، كما في قوله سبحانه وتعالى: “قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ ٭ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ” [ص: 75-76]. ولنا أن نتأمل أيضا، كيف وصل الإصرار الإبليسي إلى درجة نسبة “الخيرية” إليه هو “أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ”؛ وبناءً على ذلك، حاول تقديم تبريره بخصوص الاعترض على مسألة السجود لآدم عليه السلام.
وكما يبدو، من آيات التنزيل الحكيم، بدأ الحوار المباشر بين الله تبارك وتعالى وإبليس، بعد أن رفض إبليس السجود؛ حيث سأل الله إبليس عن سبب عدم امتثاله لأمر السجود. جاء ذلك في أكثر من موضع في القرءان الكريم؛ فإضافة إلى [ص: 75-76]، جاء ذلك في قوله عزَّ وجل: “قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ” [الأعراف: 12].
بل، إن إبليس لم يعترض فقط على السجود؛ لأن المخلوق المطلوب منه أن يسجد أمامه مخلوق من طين؛ ولكن أيضا لأنه بشرٌ خلقه الله تبارك وتعالى من “حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ”.. جاء ذلك في قوله عزَّ من قائل: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰالِقُۢ بَشَرٗا مِّن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ ٭ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٭ فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٭ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰٓ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّٰجِدِينَ ٭ قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ ٱلسَّٰجِدِينَ ٭ قَالَ لَمۡ أَكُن لِّأَسۡجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقۡتَهُۥ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ” [الحجر: 28-33].
ولم يتوقف اعتراض إبليس عند حدود نسبة “الخيرية” إليه، أو رفض فكرة أن يُفضَّل مخلوق “طيني” عليه، أو بشر مخلوق من “حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ”؛ ولكن، وهذا هو الأساس في رفض إبليس السجود، لأن هذا المخلوق قد “كرّمـه” الله تبارك وتعالى؛ بما يؤكد أن السجود ليس “سجود خضوع” ولكنه، كما أراده الله تعالى، “سجود تكريم” لأنه سبحانه قد سَخَّرَ كل ما في الكون ليكون في خدمة “الإنسان – الخليفة”، لإنجاز المهمة التي أوكلها إليه رب العالمين، مهمة إعمار الأرض.
ولعل هذا الأساس في الرفض الإبليسي لأمر السجود، يتبين بوضوح في قوله سبحانه: “وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِينٗا ٭ قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا ٭ قَالَ ٱذۡهَبۡ فَمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمۡ جَزَآءٗ مَّوۡفُورٗا” [الإسراء: 61-63].
هنا، وعبر السياق القرءاني في الآية الكريمة، خاصةً ما جاء على لسان إبليس “قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ…”، يتبدّى بشكل لافت إشكالية إبليس في السجود، وعدم الامتثال للأمر الإلهي؛ إنها إشكالية “التكريم” الإلهي للإنسان، تكريم “الإنسان – الخليفة” الذي حمل “الأمانة”، كما في قوله تعالى: “إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا” [الأحزاب: 72].
طلب إبليس
واللافت، أن إشكالية إبليس تلك، في الوقت الذي كانت سببا في رفضه السجود لهذا “الإنسان” فإنها -في الوقت نفسه- كانت دافعا لطلب إبليس من الله تبارك وتعالى أن يُمهله حتى يوم القيامة، وذلك بعد أن أصدر سبحانه “الحُكم” الإلهي الحاسم بالعقوبة التي حلت بإبليس، حيث “هبوط” مكانته، وطرده من الجنة ولعنه “إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ”.
وقد ورد هذا الحكم الإلهي، في أكثر من موضع؛ بخصوص هبوط المكانة، يقول سبحانه وتعالى: “قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ” [الأعراف: 13]. أما بخصوص الطرد واللعن، يقول سبحانه: “قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ ٭ وَإِنَّ عَلَيۡكَ ٱللَّعۡنَةَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ” [الحجر: 34-35].. ويقول تعالى: “قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ ٭ وَإِنَّ عَلَيۡكَ لَعۡنَتِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ” [ص: 77-78].
ولأن إشكالية إبليس كانت في التكريم الإلهي للإنسان؛ لذلك طلب من الله تبارك وتعالى “مهلة” زمنية، لكي يُثبت من خلالها أن هذا “الإنسان” لا يستحق مثل هذا التكريم. بل إن الأمر لم يتوقف عند حدود “الإنسان” المأمور له إبليس بالسجود، ولكن يصل الأمر إلى ذريته بـ”الغواية” من جانب إبليس “إِلَّا قَلِيلٗا” منهم. وهذا، يتضح في قوله تبارك وتعالى: “قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا” [الإسراء: 62].
وللحديث بقية.