رؤى

تسخير “الْفُلْكَ” و”الْبَحْرَ”.. قراءة في السُنَّة الإلهية”

في البحث حول مفهوم “التسخير” في كتاب الله الكريم، وصلنا إلى أن هناك ارتباط بين سنن التسخير وسنن الخلق، في آيات التنزيل الحكيم؛ لذا يُصبح من الضروري التأكد من أن تسخير الكون، أي تسخير “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، إنما كان للإنسان لأجل وجوده؛ بما يعني أن الكون قد بُني بالقدرة الإلهية على قوانين (سنن) كمية وكيفية تناسب تماما الكيان الإنساني في وجوده ابتداء؛ فكأنما الكون قد صُنع لاستقبال الإنسان.

لقد سخَّر الله سبحانه وتعالى للإنسان كثيرا من الظواهر الكونية؛ فقد سخَّر له الشمس والقمر، والليل والنهار، والفلك والأنهار والبحار، وفي آيات التنزيل الحكيم ما يؤكد هذا التسخير، بل والارتباط بين “الخلق” و”التسخير”. يقول سبحانه: “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13].. ويقول تعالى: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ” [إبراهيم: 32].

وعبر هذه الآيات البينات ومحاولة تدبرها، لنا أن نُلاحظ أن كل ما في عالم الشهادة هو مُسَخَّر للإنسان؛ إذ ليس هناك شيء محظور على الإنسان، الذي جعله سبحانه وتعالى “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” [البقرة: 30] اكتشافه والبحث فيه ودراسته أو استخدامه لمصلحته.

في ما يعنيه، يعني هذا أن تسخير كل تلك الأشياء والظواهر الكونية، بما فيها المخلوقات من دون الإنسان، لا يتوقف عند حدود الانتفاع المادي فحسب؛ بل إن الغرض الأساس يتمثل في التطلع إلى الجانب المعنوي، الجانب الخاص بالعقيدة الإنسانية تجاه الخالق الأعظم: “مبدأ التوحيد”.. فالتسخير الذي هو مقدمة لأن يستطيع الإنسان إنجاز مهمته في إعمار الأرض، وتعميرها، يقود إلى أن يتجاوز الإنسان الأفلاك والنجوم المُسخَّرة فوق الناس، إلى المُسَخِّر سبحانه وتعالى فوق عباده: “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ” [الأنعام: 18].

إضافة إلى هذا الغرض الأساس، يأتي تسخير الأشياء والظواهر الكونية، التي سخَّرها الله سبحانه وتعالى للإنسان؛ لتكون عونًا له في أداء مهمته، التي من أجلها أوجده الله في الأرض؛ يأتي هذا التسخير ليرتبط ارتباطًا وثيقًا بنعم الله التي أسبغها على الإنسان.. يقول سبحانه: “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ” [لقمان: 20]. وكما يبدو من سياق الآية، يأتي التأكيد على أن “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، قد سَخَّرّهُ الله سبحانه وتعالى للناس بدليل التأكيد على: “أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ”.

ثم إن مفتتح الآية يؤشر إلى طلب الاستدلال من الناس “أَلَمْ تَرَوْا” على أن هذا التسخير هو لمصلحة الإنسان، خاصة أن سياق الآية يؤكد أن التسخير يرد مترابطا مع نعم الله سبحانه وتعالى، وذلك عبر صيغة العطف “أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ… وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ…”. بل وإن هذا الاستدلال يتطلب تدبرا وتأملا عبر “الرؤية” التي جاءت في أول الآية؛ إذ إن الخطاب في “أَلَمْ تَرَوْا” يأتي موجهًا للكل.

في هذا الإطار (إطار دلالات مصطلح “تسخير”) لنا أن نقترب من تسخير “الْبَحْرَ” وتسخير “الْفُلْكَ” وعلاقة تسخير كل منهما بالآخر؛ وهي العلاقة التي وردت في أربعة مواضع في آيات التنزيل الحكيم.

من جهة “الْفُلْكَ” فقد ورد مصطلح تسخير الْفُلْكَ، في موضع واحد من آيات القرآن الكريم؛ وفي الوقت نفسه، أتى متواكبًا مع مصطلح تسخير “الْأَنهَارَ”، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ” [إبراهيم: 32]. وهنا، لنا أن نلاحظ حركة العطف الثنائية “أَنزَلَ… فَأَخْرَجَ”، التي تندرج في إطار حركة العطف الثلاثية، ذات الدلالة على الارتباط بين “خَلَقَ… وَأَنزَلَ… وَسَخَّرَ”؛ خاصة وأنها جميعًا تأتي في صيغة الفعل الماض، لا المضارع، من حيث إن هذه الأفعال هي سنن إلهية، بما يعني أنها عمومًا، والتسخير بشكل خاص، قوانين نافذة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ثم لنا أن نلاحظ أيضا أن تسخير الْفُلْكَ وتسخير الْأَنهَار، يأتي في سياق واحد مع تسخير “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” وتسخير “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” بوصفها ظواهر كونية؛ وهو السياق الذي يختم بـ”وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا”.. إذ يأتي السياق في قوله سبحانه: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ٭ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ٭ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ” [إبراهيم: 32-34].

إلا أن الأمر الجدير بالتأمل والانتباه في آن، أن سياق الآيات الكريمات السابقة، تؤشر إلى أهم سُنَّة من سنن التسخير، ألا وهي قانون “الحركة”، وذلك من خلال “لام” التعليل في “لِتَجْرِيَ”، عبر قوله سبحانه: “وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ” وأيضًا من خلال دلالة لفظ “دَائِبَيْنِ”، عبر قوله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ”.

سنة التسخير هذه، بما تُعبر عنه من قانون “الحركة”، تتبدى بوضوح عبر التأكيد على جريان “الْفُلْكَ” في “الْبَحْرَ”، وذلك في قوله عزًّ وجل: “أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ” [الحج: 65]. وكما هو واضح، فإن ثمة علاقة ارتباطية بين “الْفُلْكَ”، كمثال ذي دلالة، من حيث إنها “تَجْرِي فِي الْبَحْرِ”، وبين تسخير “مَا فِي الْأَرْضِ” كـ”سُنَّة” إلهية عامة.

أما من جهة “الْبَحْرَ”، فقد ورد مصطلح تسخير البحر، متواكبًا مع ورود مصطلح الفُلك، في موضعين اثنين من آيات التنزيل الحكيم..

الأول، في قوله سبحانه: “اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” [الجاثية: 12]؛ حيث تؤكد الآية الكريمة على الارتباط بين تسخير “الْبَحْرَ”، وبين جريان “الْفُلْكَ” فيه؛ بل، إن هذا الجريان وذلك التسخير يأتيان في الإطار العام للتسخير الإلهي لكل “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، وهو ما يتأكد من خلال السياق الذي ترد فيه الآية الكريمة، مع الآية التي تليها، في قوله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13].

ولنا أن نلاحظ، أن “سَخَّرَ لَكُمْ”، في مُفتتح الآية، تأتي لتؤشر على أن تسخير الأشياء والظواهر الكونية، إنما سخَّرها الله سبحانه وتعالى لـ”الإنسان”، لتكون عونًا له في أداء مهمته، التي من أجلها أوجده الله في الأرض. وهذا ما يتبدى بشكل جلي في ورود تعبير “سَخَّرَ لَكُمْ”، في مفتتح الآيتين المتتاليتين؛ إضافة إلى لفظ “جَمِيعًا”، الذي يؤشر إلى أن تسخير كل “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، هو “مِنْهُ” سبحانه وتعالى، وهو “لَكُمْ”، أي للناس.

أما الموضع الآخر، فهو قوله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” [النحل: 14].. وهي الآية الكريمة التي تحتاج، في محاولة تدبرها، قدرًا من التفصيل.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock