في ظل التحولات الجيوسياسية الكبيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في العقد الأخير، أصبح واضحا أن روسيا تسعى لإعادة تشكيل استراتيجياتها الخارجية، بما يتماشى مع تغير موازين القوى العالمية. ومع تغيرات الأوضاع في سوريا، تنظر موسكو إلى ليبيا على أنها الجبهة التالية لتوسيع نفوذها. هذه الاستراتيجية تتأثر مباشرة بالتحولات في سوريا، حيث تُعيد روسيا النظر في أولوياتها، لتوسع نفوذها من شرق البحر المتوسط إلى شمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي.
ومن ثم، فإن أحد السيناريوهات المتوقعة أن تتوجه روسيا نحو توسيع نفوذها في ليبيا.. لكن ما الدوافع وراء هذا التحرك؟، وما التداعيات المحتملة على أوروبا والغرب؟.. ثم، أين يمكنها التمركز عسكريا في ليبيا؟ ولماذا؟
قاعدة “معطن السارة”
برزت روسيا بوصفها أحد الأطراف الدولية الرئيسة التي تسعى لتعزيز وجودها في ليبيا، وذلك ضمن جهودها لإعادة تشكيل المشهد السياسي والأمني في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. ويأتي هذا التوسع الروسي عبر عدة أدوات، من بينها الدعم السياسي والعسكري لطرفي النزاع الليبي، وصولا إلى تعزيز وجودها العسكري المباشر على الأرض.
ومنذ أيام قليلة، وتحديدا في 21 فبراير 2025، ذكر موقع مجلة “ناشيونال إنترست” أن روسيا تعمل على توسيع وجودها العسكري في ليبيا، مع التركيز على قاعدة “معطن السارة” الجوية، بالقرب من حدود السودان وتشاد. والواقع أن إشارة الموقع إلى عمل روسيا على توسيع وجودها العسكري في ليبيا، ليس جديدا.. لكن الجديد هو الإشارة إلى قاعدة “معطن السارة” الجوية.
إذ، تعد قاعدة “معطن السارة” الجوية، التي تقع بالقرب من الحدود الجنوبية لليبيا مع السودان وتشاد، واحدة من أبرز المواقع العسكرية التي تسعى روسيا لتعزيز نفوذها فيها. ويعود الاهتمام الروسي بهذه القاعدة إلى موقعها الجغرافي المميز الذي يوفر نقاط اتصال استراتيجية مع مناطق الصراع والاضطرابات في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي، بما في ذلك السودان، وتشاد، والنيجر.
تقع القاعدة في منطقة نائية، ما يجعلها مثالية للعمليات العسكرية السرية أو بعيدة المدى. وبهذا، تتيح “معطن السارة” للقوات الروسية القدرة على رصد التحركات العسكرية واللوجستية في المنطقة، وتوفير الدعم للعمليات العسكرية الروسية، وحلفائها المحليين، وفي مقدمتهم الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر؛ كما تمنح القاعدة موسكو القدرة على تأمين خطوط الإمداد والتواصل مع مناطق نفوذها الأخرى في أفريقيا.
أهداف استراتيجية
تعد ليبيا بمثابة محور استراتيجي مهم للسياسة الخارجية الروسية في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. وفي هذا الإطار، تأتي تحركات روسيا لتوسيع وجودها العسكري في ليبيا انطلاقًا من عدة أهداف استراتيجية.. لعل من أهمها:
من جانب، تعزيز النفوذ العسكري والسياسي؛ إذ تسعى روسيا إلى ترسيخ وجودها العسكري والسياسي في ليبيا، كجزء من استراتيجيتها لتعزيز نفوذها في شمال أفريقيا، خاصة مع تراجع القوى الغربية التقليدية، مثل الولايات المتحدة وفرنسا. يعتبر هذا التوسع فرصة لروسيا لملء الفراغ الذي تركته القوى الأخرى، ما يتيح لها التأثير على موازين القوى في المنطقة وفرض شروطها في أي مفاوضات مستقبلية حول ليبيا.
من جانب آخر، حماية المصالح الاقتصادية الروسية؛ فمن حيث إن ليبيا تعد دولة غنية بموارد الطاقة، خصوصا النفط والغاز، ومن حيث إنها تمتلك واحدا من أكبر احتياطيات النفط في العالم؛ لذا تسعى روسيا من خلال دعمها لأحد أطراف النزاع (الجيش الليبي)، وتوسيع وجودها العسكري، خاصة في شرق ليبيا، إلى تأمين هذه الموارد وضمان وصول الشركات الروسية إلى عقود استخراج واستثمار في قطاع الطاقة الليبي.
ومن ثم، فإن تحكّم روسيا في مصادر الطاقة الليبية، يمكن أن يُعزّز نفوذها الاقتصادي والسياسي على المستوى العالمي، خاصةً في سوق الطاقة الأوروبية. ومن هنا، قد ترى روسيا في ليبيا فرصة لتعويض الخسائر المحتملة، التي قد تتعرض لها جراء العقوبات الغربية أو تقلبات أسواق الطاقة العالمية.
من جانب أخير، موازنة الدور الغربي في المتوسط؛ من خلال وجودها في ليبيا، تسعى روسيا إلى مواجهة النفوذ الغربي الذي لطالما هيمن على منطقة البحر المتوسط وشمال أفريقيا. يمثل هذا التوسع جزءا من استراتيجية روسية أوسع للتأثير على السياسات الغربية في المنطقة، بما في ذلك محاربة التدخلات الغربية في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، والدفاع عن مصالحها على الساحة الدولية. في هذا الإطار، تأتي ليبيا كجبهة أخرى تسعى روسيا فيها إلى تحدي النفوذ الغربي وتعزيز مكانتها كلاعب عالمي مؤثر.
الفيلق الأفريقي
بيد أن تحركات روسيا لا تقتصر على الجوانب العسكرية التقليدية فحسب، بل تشمل جهودًا لتشكيل قوى عسكرية غير نظامية تعمل في عدة مناطق نزاع عبر أفريقيا. ويأتي الحديث عن “الفيلق الأفريقي” ليعكس هذه الاستراتيجية؛ وهو مفهوم يشير إلى الاعتماد الروسي المتزايد على قوات “غير نظامية” مرتبطة بروسيا مثل مجموعة فاغنر، التي تعمل في دول متعددة في أفريقيا، بما في ذلك ليبيا.
في هذا الإطار، يعتبر “الفيلق الأفريقي” جزءا من استراتيجية أوسع لروسيا تستخدم فيها القوة العسكرية غير النظامية كأداة لتحقيق النفوذ في أفريقيا، بعيدا عن الضغوط القانونية والسياسية التي تفرضها العمليات العسكرية النظامية. ومن هنا، يأتي توسيع الوجود العسكري الروسي في ليبيا بوصفه محطة رئيسة في هذا المخطط، حيث تُعد ليبيا بمثابة مركز انطلاق للعمليات الروسية في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل.
ومن خلال تعزيز وجودها في قاعدة “معطن السارة” الجوية، تسعى روسيا إلى تأمين قاعدة عمليات تتيح لقواتها، سواء النظامية أو غير النظامية، مثل مجموعة فاغنر، التحرك بحرية عبر مناطق النزاع في أفريقيا. بل، تتيح هذه القاعدة لروسيا التواصل مع قواتها غير النظامية المنتشرة في مناطق أخرى؛ مثل السودان وتشاد والنيجر ومالي.. فضلا عن أفريقيا الوسطى.
من ضمن الأهداف الرئيسة التي تسعى روسيا إلى تحقيقها، من خلال “الفيلق الأفريقي”، هو ضمان السيطرة على الموارد الطبيعية في الدول الأفريقية المتحالفة معها. ولا يقتصر الأمر على النفط في ليبيا فحسب، بل يمتد إلى الدول المجاورة، مثل تشاد ومالي، التي تحتوي على موارد طبيعية مثل الذهب واليورانيوم.
نقطة إسناد
أدى سقوط بشار الأسد ونظامه في سوريا، في 8 ديسمبر 2024، إلى عرقلة مشاريع روسيا في أفريقيا؛ بل وإرغامها على البحث عن “نقطة إسناد بديلة” في حوض المتوسط، متطلعة في هذا السياق إلى ليبيا. ويأتي توسيع الوجود العسكري الروسي في ليبيا، وخاصة عبر قاعدة “معطن السارة” الجوية، ليعكس استراتيجية موسكو الطموحة لتعزيز نفوذها في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي. بل، وتأتي هذه التحركات في إطار سعي روسيا لتأمين مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة، وموازنة النفوذ الغربي المتراجع.
بالإضافة إلى ذلك، ترى روسيا في ليبيا فرصة لتعزيز موقفها في التنافس الجيوسياسي مع القوى الغربية؛ إذ، تمثل ليبيا نقطة تقاطع حيوية بين أفريقيا وأوروبا، ومن خلال تعزيز وجودها العسكري هناك، تسعى روسيا إلى إنشاء جسر يربط بين نفوذها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.