أما جُلَيبيب فهو قِصة أخرى، تزدحم بكل ما هو جميل ومؤثّر، قِصة تعبّر عن حُب النبي -صلوات ربي وسلامه عليه- لأصحابه ممن لم يكن لهم حظ من الدنيا، وتعلّقه بأولئك النفر الذين إذا حضروا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يُفتقدوا.. كان يرى منهم التواضع والإخبات والرضا من الدنيا بالقليل، وذلك الإيمان الذي لا يُبقي في قلب صاحبه مكانا لحمل هموم الدنيا، والخشية من فوات المغنم؛ تلك القلوب التي وصفها الحبيب بأنها “مثل أفئدة الطير” توكلا على الله وإحسانَ ظنٍ به. ولكن كيف وصل جُلَيبيب إلى تلك الحظوة الكبرى، في قلب المصطفى حتى قال عنه “…هذا مني وأنا منه”.
مع قلة المصادر.. نحاول تلمّس بعض الخيوط التي من الممكن أن تنسج لنا القِصَّة على نحو أوضح.. يُروى أن جُلَيبيب كان في العاشرة من عُمره، عند قدوم رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه- إلى المدينة. يتيم لطيم بلا بيت يؤويه، ولا قريب يواسيه، لم يحظ من جمال الشكل بالكثير؛ لكنه كان جميل الروح خفيف الظل على نحو لافت، فكان يختلفُ إلى بيوت الأنصار؛ يُضحك الأطفال والنساء، وينال شيئا من الرعاية والإحسان، وعندما بنى الرسول مسجده بالمدينة- اتخذه جُلَيبيبُ بيتا فكان ينام فيه، ويلزمه طوال الوقت؛ لذلك كان قريبا من الرسول، يعامله كابن له.. يلاطفه ويهتم به ويطعمه ويسعد بالحديث معه، لما كان يتمتع به جُلَيبيب من روح الفكاهة والذكاء.
روى أبو برزة الأسلمي (نضلة بن عبيد) “أنَّ جُلَيبيبًا كان امرَأً يَدخُلُ على النِّساءِ، يَمُرُّ بهنَّ ويُلاعِبُهنَّ، فقُلتُ لامرأتي: لا يَدخُلَنَّ عليكم جُلَيبيبٌ؛ فإنَّه إنْ دَخَلَ عليكم، لأفعَلَنَّ ولأفعَلَنَّ…” ويبدو أن دافع أبي برزة في ذلك الأمر، هو أنه رأى على جُلَيبيب شيئا من أمارات البلوغ، مما لا يصحُّ معه دخوله بيوت الأنصار، كما كان يفعل صبيا، فكان ذلك إيذانا بمرحلة جديدة في حياة ذلك الشاب الفقير، مرحلة الجد والاجتهاد في العبادة والسعي في طلب الرزق، فلما رأى رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه- ما أصبح عليه حال الفتى، أراد أن يزوّجه فقال له الحبيب ذات يوم: يا جُلَيبيب ألا تتزوج؟ فقال: يا رسول الله، ومَن يزوِّجني؟! يقصد ومن يرضي بي وأنا على هذه الحال من الفاقة والدمامة، كما أني بلا أهل. فقال له الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: أنا أزوِّجك يا جُلَيبيب. فقال: إذن تجدني كاسدا يا رسول الله، فقال الرسول: “غير أنك عند الله لست بكاسد”.. وما رواج العبد عند ربه إلا بالإخلاص في العبادة، والحرص على الطاعات.
وكانت الأنصار إذا كان لأَحدهم أَيِّمٌ؛ لَم يُزَوِّجها.. حتَّى يعْلَمَ هَل لِلنَّبِيِّ صلى الله علَيه وسلَّم فِيهَا حاجة أَم لا؟ فقال رسول الله صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم لرجلٍ من الأَنصار: “زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ”. فقال: نِعِمَّ وَكَرَامَةٌ يَا رَسُولَ اللهِ وَنُعْمَ عَيْنِي. قَالَ: “إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُهَا لِنَفْسِي”. قَالَ: فَلِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” لِجُلَيْبِيبٍ”. قال الرجل: “أُشَاوِرُ أُمَّهَا”. فَأَتَى أُمَّهَا فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ابْنَتَكِ. فَقَالَتْ: نِعِمَّ، وَنُعْمَةُ عَيْنِي. فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ إِنَّمَا يَخْطُبُهَا لِجُلَيْبِيبٍ. فَقَالَتْ: أَجُلَيْبِيبٌ إنيه؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنيه؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنيه؟ تعني ما أبعده أن يكون لابنتها زوجا.. ثم قالت المرأة: لَا، لَعَمْرُ اللهِ لَا نُزَوِّجُهُ، أمَا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبًا؟! منعناها من فلان وفلان، والفتاة في خدرها وسترها تسمع أمَّها. رفضته الأم؛ لأنهم منعوا مَن هو أفضل منه وأقدر في وجهة نظرها. سألت البنت أبويها: مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمْ؟ فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّهَا، فَقَالَتْ: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ؟ ادْفَعُونِي؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْنِي، وقالت: إن كان قد رضِيه لكم فأنكحوه.
لم تذكر لنا المصادر اسم هذه المرأة التي أوتيت من الفهم والحكمة وقوة الإيمان؛ ما لم يؤته كثير من الرجال، إنها تعي أن أمر رسول الله لا يرد، وأنه لا يجب أن ينظر المرء في الأسباب الدنيوية، إذا كان الأمر أمر رسول الله، الذي فيه الخير كل الخير، دون أدنى شك.
انْطَلَقَ الأَبُ إِلَى رسولِ الله صلّى الله علَيه وسلَّم، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: شَأْنَكَ بِهَا فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا، إن كنت قد رضيته فقد رضيناه. ووكَّل الأب، الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في تزويجها، فتمَّ الزواج، ودعا النبي للفتاة: “اللهم صُبَّ عليها الخير صبًّا صبًّا، ولا تجعل عيشها كدًّا كدًّا”.
لا نعلم على وجه الدقة كم قضى الزوجان من أيام “العسل” قبل أن ينادي المنادي “حي على الجهاد” فكان جُلَيْبِيب من أوائل من لبوا نداء الحق، مودّعا عروسه التي تعلّق قلبه بها، لما رأى فيها من جمال ودين وحسن خلق، لكن جُلَيْبِيبا وهو من تلاميذ مدرسة النبوّة؛ لا يركن إلى شيء من متاع الدنيا، وهو يعلم تمام العلم أنه زائل لا محالة؛ لذلك فإن شوقه الحقيقي للنعيم المقيم، في جنات رب العالمين، رفقة الصادق الأمين.
لم تذكر الكتب اسم تلك الغزوة التي خرج فيها جُلَيْبِيب مع رسول الله، ولا تاريخها.. كل ما نعلمه أن الله كتب لنبيه فيها النصر، فاندحر جيش أعداء الله، وبقي المسلمون في ساحة لمعركة يتفقدون شهداءهم وجرحاهم.. ويجمعون من الغنائم ما أفاء الله به عليهم.
وبينما هم كذلك إذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي عليهم: “هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟”، قَالُوا: نَفْقِدُ فُلَانًا وَنَفْقِدُ فُلَانًا، فتركهم النبي يبحثون ويفتشون عن هؤلاء المفقودين، ثم نادى عليهم ثانيةً، قَالَ: “انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟”، قَالُوا: لَا، قَالَ: “لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى”.
لم يشعر المقاتلون بغياب جُلَيْبِيب؛ لأنه كما ذكرنا آنفا كان من الذين إذا حضروا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يُفتقدوا.. لكن جُلَيْبِيبَ حاضرٌ في قلب الحبيب محمد، يعلم أنه نال الشهادة، لكن بأي كيفية نالها؟ هذا هو السؤال.
إن شابا مثل جُلَيْبِيب لا بد أن تكون نهايته على هذه الأرض، نهاية تليق به، وهو من هو.. إنه ربيب رسول الله.. لم يعرف بيتا قبل زواجه إلا المسجد النبوي.. عاش عمره القصير بالقرب من الحبيب، الذي كان يحنو عليه ويهتم لأمره ويطعمه ويرأف به، منذ أن أقبل عليه طفلا في العاشرة، يخطر في أثمال.. على وجهه بشاشة وقبول تخفيان ألم اليتم والفاقة.
عاد الصحابة للبحث عن جُلَيْبيب امتثالا لأمر الرسول، فوجدوا جثمانه الشريف بين جثث سبعة من المشركين، قتلهم ثم قتلوه.. فلم يرفعوه من مكانه، بل أرسلوا في طلب رسول الله الذي أتى مهرولا.. فلما حضر نظر مليا إلى وجه جُلَيْبيب، ذلك الوجه الذي رأى فيه جمال الإخلاص والزهد والتعلق بالله لا سواه.. تذكّر ذلك الطفل الذي كان يأوي إليه؛ فيعوّضه -صلى الله عليه وسلم- بحنانه ورفقه عن كل ما لقيه، تذكّر كيف صار شابا بَسُومًا ضحوكا، وما كان من أمر زواجه بتلك الفتاة الصالحة النقية.
بكى الحبيب جُلَيْبيبا الذي كان منه بمكانة الابن، ثم قال: “قَتَلَ سَبْعَةً وَقَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هذا مني وأنا منه”. لقد فرح الرسول بهذه الخاتمة العظيمة لحياة جُلَيْبِيب، خاتمة ملئوها البطولة والفداء، خاتمة تليق بشاب ربّاه رسول الله وأدبه وعلّمه وأفهمه؛ فكان من أنجب التلاميذ وأصدقهم.. ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَاعِدَيْهِ وَحُفِرَ لَهُ، مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ.
لم يرض النبي – صلوات ربي وسلامه عليه- أن يحمل جُلَيْبِيبا أحد عنه، أو حتى يحمله معه.. وضعه على ساعديه، ليس ذلك فحسب؛ بل حفر له بنفسه.. ووضعه في قبره بيديه الشريفتين.. وكأنما يزفه – وهو العريس- إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان؛ لينعم بما أعدّه له ربه من نعيم الجنان.
أما الفتاة الرائعة الحكيمة التي ترمّلت بعد استشهاده؛ فقد فتح لها الله أبواب الخير؛ ما جعلها أنفق أيِّم في الأنصار، وصار الناس يتحدثون عن غناها. قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عنها: “فَمَا رَأَيْتُ بِالْمَدِينَةِ ثَيِّبًا أَنْفَقَ مِنْهَا”، وقال أُنَيس بن الضحاك: “فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَأَنْفَقُ بِنْتٍ بِالْمَدِينَةِ”، وقَال ثَابِتٌ البناني: “فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا” وكيف لا وقد دعا لها الحبيب -صلوات ربي وسلامه عليه-: “اللهُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبًّا صَبًّا، وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا”. رضي الله عن جُلَيْبِيب وزوجته وعن كل نجباء المدرسة المحمدية.. الذين مازال عطرهم الفواح يصلنا إلى الآن.. بعد مئات السنين.