بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عروبة 22
غطرسة بنيامين نتنياهو أبانت أنّ انتهاكه لوقف إطلاق النار والرّجوع لحرب إبادة غزّة وغاراته على جنوب لبنان وجنوب سوريا لا تنفصل أبدًا عن غارات الأميركيين على اليمن والحوثيين.
تحدّث نتنياهو صراحة عن ملمحَيْن: الأوّل هو التنسيق المُسبق مع واشنطن لعدوان إسرائيل على الجبهات الفلسطينية واللبنانية والسورية. والثاني هو وجود نوع من أنواع تقسيم العمل بينهما في افتراس عالم عربي ضعيف إذْ وجه الشّكر لترامب لأنه يتولّى عن الإسرائيليين عبء جبهة اليمن.
الأنكى أنّ هناك مؤشرات على أنّ اشتعال المواجهات على الحدود السورية – اللبنانية، ومؤشرات على مواجهات قريبة على الحدود السورية – العراقية، هي جزء لا يتجزّأ من مخطط تفجير حروب في المنطقة تظنّ واشنطن – وبعض الظنّ إثم – بأنّ لديها كل الأوراق التي تمكّنها من منع تدحرج هذه الحروب المتفرّقة إلى حرب شاملة في المنطقة.
لفهم دوافع هذا التحوّل الحادّ – ولو مؤقتًا – نحو الحرب يجب الالتفات إلى ثلاثة عوامل:
– العامل الأوّل عقابي: عودة حرب الإبادة إلى غزّة… في جزءٍ منها يمكن فهمها على أنّها عقاب للمقاومة لرفضِها شراء خدعة ويتكوف وتفادي السقوط في الشرك المُخيف لمقترحه. من الواضح من سياق التصعيد العسكري الجاري أنّ من أهمّ الاتفاقات التي تمّت في زيارة نتنياهو لترامب الشهر الماضي هو اقتناع واشنطن بالتصوّر الإسرائيلي المتطرّف من أنّ إكمالها المرحلة الثانية للاتفاق بما يتضمّنه من انسحاب من القطاع في مقابل الحصول على المختطَفين هو بمثابة هزيمة لإسرائيل وانتصار للمقاومة. وبناء على ذلك، تمّ الاتفاق على دعم تنصّل نتنياهو من الاتفاق واستبدال ذلك باقتراح منفصل عن اتفاق يناير/كانون الثاني، مضمونه الحقيقي من دون مساحيق تجميل هو استدراج “حماس” لتسليم المختطفين، الأحياء منهم والأموات، فيصبح بعدها ترامب زعيم العالم القوي الذي استردّ المختطفين الذين فشل بايدن في استعادتهم ويعود نتنياهو بطلًا لإسرائيل باستئناف الحرب وترميم حكومته المتطرّفة وحلّ أزمته السياسية.
على الرَّغم من كل المرونة التي أبدتها “حماس” ومنها هدية لترامب بإطلاق سراح جندي أميركي – إسرائيلي حيّ وخمسة جثامين فإنّ المطلوب كان الإفراج عن نصف المختطفين الأحياء أي أن تتخلّى المقاومة عن نصف قوّتها التفاوضية في مقابل هدنة لمدة 50 يومًا لا تتضمّن تعهّدًا بالرجوع للاتفاق القاضي بإنهاء الحرب والانسحاب من غزّة.
وعلى الرَّغم من كلّ الضغوط لم تقع “حماس” في فخ ويتكوف المنصوب، وتمسكت بموقفها بأنّها مستعدّة أيضًا للإفراج عن خمسة مخطوفين أحياء مقابل ربط المقترح الجديد باتفاق يناير/كانون الثاني والبدء بالمرحلة الثانية. العقاب كان استئناف الحرب على غزّة. يزعم كاتس أنّ الحرب وإغلاق المعابر سيجبر “حماس” على العودة إلى التفاوض من موقف ضعف وستقوم بالاستسلام. الأرجح أنّه لن يحدث، فـ”حماس” ليس لديها ما تخسره ولن ترفع العلم الأبيض وستكون أنفاق المقاومة قلعة “الماسادا” الحقيقيّة لعصرنا.
– الضعف الإيراني: اتفاق آخر يبدو أنّه أُنجز في رحلة نتنياهو إلى واشنطن وهو توافقه مع ترامب على فكرة أنّ إيران لم تكن ضعيفةً إلى هذا الحدّ منذ قيام الجمهورية الإسلامية، وأنّ هذا هو الوقت المناسب لاستكمال تقويض ما تبقّى لها من مصادر قوّة إقليمية والتي وصلت لأقلّ مستوى منذ الضربة التي وُجهت لـ”حزب الله” وسقوط النظام السوري السابق. الفكرة هنا هي تدمير الحوثيّين كأكثر طرف صامد فيما يُعرف بمحور إسناد المقاومة، وفي الوقت نفسه شنّ المزيد من الغارات على “حزب الله” لتقويض كلّ محاولاته لاستعادة قوته.
وتدعو مصادر متنفذة في الولايات المتحدة لتشجيع النظام السوري الجديد أو فصائل مرتبطة بواشنطن في منطقة الحدود مع العراق للدخول في مواجهة لتدمير “الحشد الشعبي” العراقي الموالي لإيران ضمن خطة واسعة لاقتلاع نفوذ حلفاء إيران في الحكومة والمجتمع لصالح القوى التي ارتبطت أكثر بالنفوذ الأميركي بعد 2003.
يزعم ترامب أيضًا أنّ هذه الحروب ضدّ حلفاء طهران ستعيد الإيرانيين إلى مائدة التفاوض حول البرنامج النووي وهم ضعفاء ومستعدّون للتخلّي عن العداء لإسرائيل وقبول اتفاق يقضي على حلمهم النووي خلال شهرين على الأكثر وإلّا تعرّضوا لهجوم يُدمّر منشآت إيران النووية. أيضًا لن يقدّم الإيرانيون سوى تنازلات تكتيكية ولن يستسلموا خصوصًا ما دام المرشد الحالي حيًّا. شنّ حرب على إيران كما يهدّد ترامب وردّ إيران الشمشوني المتوقّع عليه يهدّد استقرار منطقة فيها نصف احتياطيات النفط العالمي ولن يقود إلّا إلى حرب شاملة تهدّد أهم حلفاء أميركا في الخليج.
– الضعف العربي: يحكم ترامب في نظرته للعالم العربي خبرته التي أعلنها، وهي باختصار أنّه عندما نقل سفارة بلاده إلى القدس في 2018 حذّره الجميع من ردّ الفعل العربي الغاضب رسميًّا وشعبيّا… تهكّم ترامب وقال إنّه بعد عدّة أيام لن يحدث شيء. اختبار الأميركيين للعرب هذه المرة لم يكن أيامًا، بل 16 شهرًا قُتل وجُرح فيها 170 ألف فلسطيني ولم يستخدم العرب سلاحًا واحدًا من أسلحة المصالح الهائلة لديهم والتي يحتاجها الغرب حتّى عندما ردّت القمّة على خطة التهجير التي تهدّد أنظمة الحكم في مصر والأردن والسعودية، ردّت ردًّا منزوع القوّة خاليًا من أدوات الضغط الديبلوماسي والقانوني والنفطي والمالي والجيوسياسي. مصر وقطر والسعودية والإمارات والأردن التي وضعتها واشنطن في مجموعة العمل الإقليمي لأزمة غزّة ومارست جميعها ضغوطًا على المقاومة لتقبَل باتفاق يناير/كانون الثاني لم يستخدم أي منها سلاحًا واحدًا مما لديها لعقاب إسرائيل على نقض اتفاق كانت هذه الدول ضامنة له بشكلٍ مباشر أو غير مباشِر.
وبينما تبدو قدرة “حماس” على مقاومة الاستسلام راجحة، وكذلك الحوثيون المحتمون بتضاريس اليمن، وبينما يوجد لدى الإيرانيين نقاط قوة تمنعهم من السقوط سواء بامتلاكهم تقريبًا للمقدرات النووية أو قدرتهم على إشعال الخليج كله أو تحالفاتهم الدولية الأكثر صلابة مع موسكو وبكين… فإنّ الضعف العربي واستسلام نظامه الرسمي هو الثغرة الهائلة التي لا تبدو حتى الآن أنّها قابلة للإغلاق. هذا الضعف لا يعكس فقط مجرّد الخضوع المستمر منذ 50 عامًا للإدارة الأميركية بين نُظُمٍ تعتقد أنها ستنهار اقتصاديًا إذا تخلّت واشنطن عنها، ونُظم أخرى تعتقد أنها ستنهار أمنيًّا إذا توقفت واشنطن عن حمايتها، ولكن يعكس الانقسام الحقيقي في مواقف العرب الذي تخفيه رطانة بيانات القمم العربية.
إذا لم تتمّ عملية تجميد التبادل الديبلوماسي مع إسرائيل ومشارطة ترامب بأنّه لا استثمارات بتريليونات الخليج في أميركا ولا تطبيع سعوديًا من دون إنهاء حالة الحرب وقيام دولة فلسطينية مستقلة، فإنّ حربًا شاملة، غير مخطّطٍ لها ولكن قد تفلت من عقالها، باتت احتمالًا واردًا وليس مجرّد خيال أحمق.