تعيش سوريا منذ أكثر من عقد تحت وطأة صراعات معقدة ومركبة، تجاوزت في أبعادها الطابع المحلي، لتصبح ساحة صراع إقليمي ودولي مفتوح. وفي هذا الإطار، شهدت الأشهر الأخيرة تصعيدا ملحوظا في الهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية، استهدفت مواقع عسكرية ومطارات ومراكز قيادة، بعضها قريب من مواقع إيرانية وأخرى يشتبه في استخدامها من قبل حزب الله اللبناني.
ومع تزايد هذه الهجمات، يتجدد التساؤل حول دوافع إسرائيل من هذا التصعيد، وخلفياته الإقليمية، ومدى ارتباطه بالتطورات في الساحة السورية، لا سيما ما يتعلق بالتحولات التي شهدتها هذه الساحة بعد سقوط نظام بشار الأسد، وتمدد النفوذ التركي في شمال البلاد. إلا أن التصعيد الإسرائيلي الأخير، يأتي في جانب منه كـ”رسالة” إلى تركيا بشأن نية هذه الأخيرة بناء قواعد عسكرية في وسط سوريا، ضمن اتفاقها الدفاعي مع الحكومة السورية المؤقتة.
وبالرغم من تبادل الاتهامات المُعلن بين تركيا وإسرائيل، بين اتهام إسرائيل من جانب تركيا بأنها “أكبر تهديد لأمن المنطقة”، وبين اتهام إسرائيل لتركيا بمحاولة “التمدد المُقلق داخل سوريا”.. رغم ذلك، إلا أن التفاعلات على الساحة هناك تكشف عن تفاهمات إسرائيلية تركية، غير مُعلنة، حول “محاولات تقاسم النفوذ داخل سوريا”.
أهداف إسرائيلية
منذ بداية الأزمة السورية، عام 2011، وحتى سقوط نظام بشار الأسد، في 8 ديسمبر 2024، اتخذت إسرائيل سياسة حذرة ومتدرجة في تعاملها مع الملف السوري. فعلى الرغم من موقفها المعلن بعدم التدخل المباشر في مسار الحرب السورية، إلا أنها لم تتوقف عن تنفيذ ضربات جوية تستهدف ما تعتبره تهديدا لأمنها القومي، خاصة الوجود الإيراني وتموضع حزب الله في سوريا.
إلا أن التصعيد الأخير يحمل دلالات جديدة؛ فعدد الهجمات، ونوع الأهداف المستهدفة، وتكرار الضربات ضد بنى تحتية عسكرية ومراكز قيادة، يوحي بأن إسرائيل لم تعد تكتفي بضربات “استباقية محدودة”، بل باتت تعمل وفق تصور أوسع، يهدف إلى تقويض القدرات العسكرية ليس للخصوم داخل سوريا فقط، ولكن لإنهاء أي قوة عسكرية سورية أيضا.
ومن ثم، لا يمكن فصل التصعيد الإسرائيلي، في وعلى سوريا، عن التحولات الجيوسياسية في المنطقة، خاصة تلك التي تخص النفوذ الإيراني والتركي والروسي في البلاد. فمع انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، وانحسار الوجود العسكري الأمريكي في الشرق السوري، تتزايد احتمالات حدوث فراغ في بعض المناطق، ما يفتح الباب أمام قوى إقليمية، كتركيا وإيران، لمحاولة توسيع نفوذها.
وبالتالي، ففي الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل إلى منع إيران من استغلال أي فراغ، لتمرير الأسلحة المتطورة لحزب الله، أو تعزيز وجودها قرب الجولان السوري المحتل؛ فإنها -في الوقت نفسه- تبعث برسالة قوية إلى تركيا، بشأن حدود النفوذ التركي في الداخل السوري. ومن هنا، تأتي الضربات الجوية الإسرائيلية في الجنوب السوري ومحيط دمشق.
التمدد التركي
واللافت، أن تركيا، منذ تدخلها العسكري المباشر في سوريا، عام 2016، استطاعت أن ترسخ نفوذا واسعا في شمال البلاد، عبر فصائل المعارضة الموالية لها، وتواجد قواتها في إدلب وعفرين وريف حلب؛ فضلا عن دورها في مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”.
ومع التحول السياسي والأمني، بعد سقوط النظام وسيطرة الفصائل الموالية لها على الحكم في البلاد تحت مُسمى المرحلة الانتقالية، أصبحت أنقرة اللاعب الأكثر قدرة على التمدد بسرعة في بعض المناطق، خاصة تلك القريبة من حدودها الجنوبية. وقد تحاول تركيا، في هذا الإطار، توسيع مناطق نفوذها في شمال سوريا، مستفيدة من علاقاتها بالفصائل المحلية ووجودها العسكري الفعلي.
وهنا يبرز التساؤل: هل تقبل إسرائيل بهذا التمدد التركي؟، وهل هناك توافق غير معلن بين أنقرة وتل أبيب بشأن توزيع مناطق النفوذ في سوريا ما بعد الأسد؟.
هذا التساؤل، بالتأكيد، يستند إلى النفوذ التركي الذي بات متناميا داخل سوريا، بما أصبح يُشكل هاجسا أمنيا واستراتيجيا بالنسبة إلى إسرائيل، التي بدأت تنظر بجدية إلى هذا التحول كعامل يُهدد توازن القوى في المنطقة، ويُقيد ـ إلى حد ما ـ تحركها العسكري؛ وذلك من منظور أن إنشاء قاعدة عسكرية تركية في سوريا، يُمثل “تهديدا محتملا” لحرية العمليات العسكرية الإسرائيلية هناك. ولعل ذلك ما عبرت عنه تصريحات جدعون ساعر، وزير الخارجية الإسرائيلي، خلال مؤتمر صحافي عقده مع نظيره الفرنسي في باريس، أواخر الأسبوع الماضي، التي عبر فيها عن “القلق الإسرائيلي من الدور السلبي الذي تلعبه تركيا في سوريا ومناطق أخرى”.
براغماتية سياسية
رغم ذلك، ورغم ما شاب العلاقات التركية الإسرائيلية من توتر في السنوات الماضية، إلا أن البراغماتية السياسية لطالما حكمت طبيعة هذه العلاقة. ومع عودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة في السنوات الأخيرة، وتعزيز التعاون الاقتصادي، برزت مؤشرات على نوع من التفاهم “غير المباشر” بشأن بعض الملفات الإقليمية، منها الملف السوري.
فإسرائيل ترى في تركيا طرفا يمكن التفاهم معه أكثر من إيران أو النظام السوري الانتقالي. كما أن تركيا، على الرغم من دعمها لحكام سوريا الجدد، لم – ولن – تنخرط في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وسوف تحافظ على علاقات أمنية وتجارية واقتصادية معها، رغم محاولات الرئيس التركي إظهار عكس ذلك.
من هنا، يمكن القول إن هناك أرضية مشتركة – ولو ضمنية – لتفاهم تركي إسرائيلي حول تقاسم النفوذ في سوريا، خاصة في المناطق غير الخاضعة للسيطرة الروسية أو الأمريكية. فإسرائيل قد تغض الطرف عن النفوذ التركي في شمال سوريا، ما دام هذا النفوذ يشكل حاجزا أمام إيران وحزب الله، ولا يشكل تهديدا مباشرا لها.
في هذا الإطار.. يمكن القول بأنه رغم وجود مؤشرات على توافق غير مباشر بين إسرائيل وتركيا، فإن هذا لا يعني بالضرورة وجود تفاهم رسمي أو تحالف معلن. فالتضارب في المصالح يبقى واردا، خصوصا في حال سعت تركيا لتوسيع نفوذها إلى مناطق قريبة من الجولان أو الجنوب السوري.
كما أن إسرائيل لا ترغب في تمكين أي طرف، حتى لو كان أقل عدائية، من فرض معادلة ميدانية جديدة قرب حدودها. لذلك، فهي تعمل عبر الضربات الجوية على تأمين ما تسميه بـ”خطوط الأمن الحيوي”، وإرسال رسائل متكررة بأنها لن تسمح بأي تموضع عسكري “معادٍ” في الجنوب، من جانب أي قوة إقليمية، يستوي في ذلك إيران وتركيا.