يحتل العلم أو اللواء -كما أسمته العرب- مكانة بارزة في التاريخ العربي والإسلامي، وتحفل كتب التراث بنماذج لشخصيات حملوا الراية في وقت الحرب والسلم على حد سواء، وضحوا بأرواحهم وجادوا بأنفسهم في سبيل أن تبقى الراية مرفوعة عالية خفّاقة.
حيث يروي ابن سعد في كتابه “الطبقات الكبرى” قصة الصحابي الجليل مصعب بن عمير ودوره في معركة أُحُد الشهيرة.
ويقول ابن سعد في ترجمته لهذا الصحابي: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد, فلما جال المسلمون ثبت به مصعب فأقبل ابن قميئة – وهو فارس من جيش المشركين- فضرب يده اليمنى فقطعها, ومصعب يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه فضرب يده اليسرى فقطعها, فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
وظل مصعب يحمل اللواء حتى ضربه خصمه بالرمح في صدره فسقط شهيدا.
وفي العصر الحديث، وتحديدا في أوج انتفاضة عام 1935، الشعبية في مصر، المطالبة بالاستقلال والدستور، حفظت ذاكرة المصريين، لا سيما الطلبة الجامعيين منهم، صورة الطالب الشهيد عبد الحكم الجراحي، طالب كلية الآداب الذي حمل علم بلاده، وتقدم به تظاهرة طلابية، ولم يعباً بتهديد ضابط إنجليزي له بإطلاق النار عليه، في حال استمر في التقدم؛ بل ظل يخطو وهو يحمل علم مصر والضابط يطلق عليه النار؛ حتى سقط مُضرجا بدمائه؛ ليتحول اسمه إلى هتاف ثابت في تظاهرات الطلبة: “عبد الحكم…رفعت العلم”.
وفي سبيل أن يرتفع علم فلسطين عاليا، قدمت تونس الخضراء “شهيد علم” جديد إذا صح التعبير، هو الشهيد الطالب الشاب فارس خالد.
بدا وكأن فارس يأبى إلا أن يكون كما سماه أبوه (فارس) في زمن عزَّ فيه الفرسان، واندثرت أخلاقياتهم -خالدا في ذاكرة شعبه وأمته.
كان الشاب التونسي، كما أكدت أسرته، مساندا دائما لقضية فلسطين، مشيرة إلى أنه كان يبكي تأثرًا بمشاهد الحرب في غزة، وكان يردد: لا نعيش وهم يموتون.. في إشارة إلى أهل غزة.
وفي صبيحة يوم الإثنين الموافق السابع من أبريل ٢٠٢٥، وتلبية لدعوة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي للإضراب والتظاهر ضد حرب الابادة التي يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزة- انضم فارس إلى آلاف من زملائه الطلبة الذين نزلوا الى شوارع تونس تضامنا مع غزة.وفي صبيحة يوم الإثنين الموافق السابع من أبريل ٢٠٢٥، وتلبية لدعوة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي للإضراب والتظاهر ضد حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزة- انضم فارس إلى آلاف من زملائه الطلبة الذين نزلوا إلى شوارع تونس تضامنا مع غزة.
لم يكتف فارس بالهتاف بل سعى إلى رفع علم فلسطين في سماء بلاده، فبادر إلى تسلق بناية عالية، وزرع العلم الفلسطيني عليها، لكنه سقط من علٍ ليرتقي شهيدا.
تلقت أسرة فارس النبأ بنفس راضية، وصرّح والده الذي بدا ثابتا، رابط الجأش أمام كاميرات الصحافة رغم مصابه أنه يأمل أن “يشفع له ولده” في العالم الآخر.
وأضاف موجها حديثه إلى المقاومة في قطاع غزة: “لقد أرسلت لكم أخا لكم”.
ولم تغب فلسطين عن تشييع فارس، حيث لُفَّ جثمانه الطاهر بعلمها الذي أراد رفعه عاليا، وتحولت جنازته التي شارك فيها الآلاف إلى تأكيد على خيار المقاومة والتضامن مع فلسطين.
ليس من سبيل المبالغة القول: إن معركة طوفان الأقصى المندلعة منذ عام ونصف العام، كما أهدت الأمة نموذجا في المقاومة والثبات والصمود، أهدتها أيضا نماذج مشرقة كخالد، قدوة تنير لشبابها في ظلام عربي حالك.