رؤى

حدود التفاهمات الأمريكية الروسية.. في سوريا

مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، تجدد الجدل داخل الإدارة الأمريكية حول العديد من القضايا الجيوسياسية الكبرى، وفي مقدمتها التواجد العسكري الروسي في سوريا. هذا التواجد، الذي ترسخ منذ عام 2015، مع التدخل العسكري المباشر لدعم نظام بشار الأسد، أصبح عنصرا ثابتا في معادلات القوة الإقليمية؛ لكنه بات أيضا محلّ انقسام داخل دوائر صنع القرار في واشنطن، لا سيما في ظل الحرب المستمرة في أوكرانيا، وتعقيدات العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة.

فهل يُعدّ التواجد الروسي في سوريا معضلة حقيقية لإدارة ترامب الثانية؟ وما طبيعة الجدل القائم حوله داخل البيت الأبيض والبنتاغون؟، وهل يمكن أن يكون الملف السوري جزءا من تفاهمات أكبر بين موسكو وواشنطن لحل الصراع الأوكراني؟

حقائق وأبعاد

منذ سبتمبر 2015، حين بدأت روسيا تدخلها العسكري المباشر في سوريا، أنشأت موسكو قاعدتين أساسيتين: قاعدة “حميميم” الجوية في اللاذقية، وقاعدة “طرطوس” البحرية على الساحل السوري، إلى جانب مواقع انتشار صغيرة أخرى في مناطق استراتيجية من البلاد. هذا التواجد منح روسيا موطئ قدم على البحر المتوسط، وأعادها إلى مشهد الصراع الشرق أوسطي بوصفها لاعبا مؤثرا.

القواعد الروسية في سوريا لم تُستخدم فقط لدعم عمليات النظام السوري؛ بل أصبحت أيضا نقاط ارتكاز عسكرية واستخبارية، توفر لروسيا فرصا لرقابة الملاحة في البحر المتوسط، والتنسيق مع إيران، والانخراط في معادلات الطاقة والسياسة في الشرق الأوسط وشرق المتوسط في الوقت نفسه.

إلا أنه منذ الأيام الأولى لولايته الثانية، برزت ملامح تباين داخل إدارة ترامب حول كيفية التعاطي مع الملف السوري، وتحديدا مع الوجود الروسي هناك؛ وهو التباين الذي يعكس صراعا أوسع بين جناحين داخل الإدارة الأمريكية:

الجناح البراغماتي؛ الذي يقوده ترامب شخصيا وعدد من مستشاريه المقرّبين، ويرى أن واشنطن ليست بحاجة إلى الانخراط العسكري الواسع في سوريا، بل ينبغي التركيز على الملفات الأهم، مثل الاقتصاد، والتصدي للصين، وضمان أمن إسرائيل. هؤلاء يفضلون التعامل مع روسيا على قاعدة “تفاهمات الحد الأدنى” بما يشمل احتمال التفاوض حول مناطق النفوذ وتجميد التوترات.

أما الجناح الآخر، جناح البنتاغون ووكالة الاستخبارات؛ فهو يعبّر عن موقف أكثر تشددا، ويرى أن استمرار التواجد الروسي في سوريا يشكل تهديدا مباشرا للمصالح الأمريكية، سواء عبر دعم النظام السوري، أو عبر تعزيز الحضور الروسي في البحر المتوسط. وكما يبدو فإن هذا الجناح يدفع باتجاه استراتيجية ردع روسية تشمل تصعيد الضغوط في سوريا وأوكرانيا معا.

ونتيجة لهذا التباين، أصبح الوجود الروسي في سوريا موضوعا شائكا داخل الإدارة الأمريكية، يتداخل فيه الأمن القومي، والاعتبارات الاستراتيجية، والتكتيك التفاوضي مع موسكو.

تفاهمات وارتدادات

منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، في عام 2022، ارتبط مصير القواعد الروسية في سوريا بشكل غير مباشر بمسار الصراع في أوروبا الشرقية. فمع تزايد الضغط العسكري والاقتصادي على روسيا في أوكرانيا، بدأت محاولات موسكو في البحث عن “أوراق مساومة” في ساحات أخرى، قد تكون سوريا إحداها.

وفي المقابل، يدرك صقور واشنطن أن أي تفاهم أمريكي روسي حول أوكرانيا قد يتطلب تنازلات في مناطق نفوذ أخرى، بما فيها سوريا. وهنا تنشأ معضلة مزدوجة: هل يمكن الضغط على روسيا في سوريا من أجل مكاسب في أوكرانيا؟.. أم يجب منح روسيا هامش مناورة في سوريا، لتشجيعها على الانسحاب التدريجي من أوكرانيا؟

هذه التساؤلات، في الواقع، تمثل جوهر الجدل داخل الإدارة الأمريكية، وتكشف عن تعارض في الرؤية بين من يسعى لصفقة شاملة، ومن يفضّل المواجهة متعددة الجبهات.

والواقع، من الناحية العسكرية البحتة، لا يشكل التواجد الروسي في سوريا تهديدا مباشرا للوجود الأمريكي المحدود في الشرق السوري، ولا يتقاطع ميدانيا مع مناطق النفوذ الأمريكي. لكن من منظور استراتيجي أوسع، يشكّل التواجد الروسي عامل إزعاج دائم لواشنطن، لعدة أسباب: منها، رقابة المتوسط، حيث إن وجود قاعدة بحرية في طرطوس؛ يعزز من قدرة روسيا على مراقبة وتحريك أسطولها في شرق المتوسط، ويشكّل تحديا لحلف الناتو. ومنها أيضا أن القواعد الروسية تتيح لموسكو تنسيقا ميدانيا مع إيران، ما يقلق إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. هذا فضلا عن أن الاحتفاظ بهذه القواعد يمنح روسيا نفوذا سياسيا متجددا، يجعلها طرفا لا غنى عنه في أي حل سياسي مستقبلي للأزمة السورية.

لكن في المقابل، ربما ترى واشنطن أن هذه القواعد قد تتحول يوما ما إلى عبء على روسيا، خاصةً إذا تحوّل الوجود العسكري الروسي إلى كلفة مالية وسياسية طويلة الأمد.

احتمالات مستقبلية

في ضوء هذه الحسابات المعقدة، يمكن تصور عدة سيناريوهات لمستقبل القواعد الروسية في سوريا، في سياق أي تفاهم أمريكي روسي حول أوكرانيا:

أولا، سيناريو الصفقة الشاملة؛ حيث يتم التوصل إلى تفاهم أوسع بين موسكو وواشنطن، يتضمن تجميد النزاع في أوكرانيا مقابل تنازلات محدودة في سوريا، كخفض عديد القوات الروسية أو قبول بترتيبات أمنية مشتركة بإشراف دولي.

ثانيا، سيناريو تبادل النفوذ؛ إذ، من الممكن أن توافق الولايات المتحدة على بقاء القواعد الروسية في سوريا، في مقابل انسحاب روسي تدريجي من مناطق حساسة في أوكرانيا، أو ضمانات بعدم توسيع الحرب.

ثالثا، سيناريو التصعيد المتبادل؛ وهو الاحتمال الذي يقوم في حال فشل التفاهم حول الحرب في أوكرانيا. إذ، هنا، قد تلجأ واشنطن إلى الضغط المباشر على النفوذ الروسي في سوريا عبر دعم الحكام الجدد في سوريا، أو عبر ضربات إسرائيلية مكثفة لمواقع حليفة لروسيا.

في هذا الإطار.. يبدو أن القواعد الروسية في سوريا ستبقى في المدى المنظور جزءا من معادلة توازنات معقدة، تتجاوز السياق السوري المحلي لتصبح ورقة في الصراع الروسي الأمريكي الأوسع. وفي ظل عودة إدارة ترامب، التي تميل إلى الصفقات والتفاهمات البراغماتية، أكثر من المواجهات المباشرة، قد تتحول سوريا إلى ساحة اختبار لإمكانية تحقيق “صفقة كبرى” تنهي أو تجمد الحرب في أوكرانيا.

لكن، رغم كل ذلك، يبقى التحدي الأكبر هو التناقض داخل واشنطن نفسها؛ فبينما يسعى الرئيس ترامب إلى مقاربة براغماتية للملف الروسي، فإن المؤسسة الأمنية التقليدية – كما يبدو – ما تزال ترى في الوجود الروسي تهديدًا طويل الأمد، يجب احتواؤه لا التفاهم معه.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock