رؤى

هل يشهد الساحل الأفريقي.. تغيرًا في النظام الإقليمي؟

لعل موجة الانقلابات التي شهدتها خمس دول في منطقة غرب أفريقيا، خلال ما يقل عن سنوات ثلاث منذ عام 2020، وإن كانت قد ارتبطت بصعود نخبة من العسكريين الجدد، الذين يمثلون مرحلة جديدة في السياق الأفريقي، من حيث محاولة إزاحة بعض الأنظمة الحاكمة، التي تُعد حليفًا للغرب عمومًا، وفرنسا بوجه خاص.. إلا أن هذه الانقلابات تُمثل ما يُشبه “الإعصار”، الذي له تداعيات ليس على منطقة غرب ووسط أفريقيا فقط؛ ولكن على منطقة شمال أفريقيا العربية أيضا.

وكما يبدو، فإن هذه الانقلابات، التي امتدت من مالي (أغسطس 2020، مايو 2021)، إلى غينيا (سبتمبر 2021)، ثم إلى بوركينا فاسو (يناير، سبتمبر 2022)، ومنها إلى النيجر (يوليو 2023)؛ وأخيرًا الغابون (أغسطس 2023).. كانت قد استندت إلى مجموعة من العوامل المتعددة والمتشابكة، سواء منها العوامل الداخلية، أو تلك المتعلقة بالصراع والتنافس الدولي، المحتدم في هذه المنطقة من العالم. هذا، فضلًا عن التداعيات المحتملة لهذه الانقلابات، على الأقل من منظور نوعية وطبيعة النخب الحاكمة الجديدة، وتوجهاتها المستقبلية.

إذ يبدو بوضوح أن النخب العسكرية التي قامت بهذه الانقلابات، إنما تُعبّر عن قادة عسكريين برتب عسكرية مختلفة، وإن كانوا في معظمهم من الرتب المتوسطة؛ وبالتالي، يبدو التقارب في الرتب العسكرية، وفي السن أيضا، قاسما مشتركا؛ ساهم في إدراك هؤلاء العسكريين لتفاقم الأزمات الاقتصادية والأمنية لشعوب بلدانهم، رغم أن هذه البلدان تنعم بموارد طبيعية كبيرة؛ ومن ثم، كان التوجه نحو الإطاحة بالأنظمة الحاكمة، التي فشلت في معالجة التحديات التي تواجهها شعوب هذه البلدان.

أيضًا، وإضافة إلى ما يمتلكه العسكريون الجدد من خبرات كبيرة في الشأن العسكري، خاصة أن معظمهم قد التحق بالدراسة العسكرية في الخارج؛ فقد ارتبط سخط معظم العسكريين الجدد، من تنامي الارتباط بين أنظمة الحكم في البلدان الأفريقية الخمسة مع الغرب، لاسيما فرنسا، مع توجه الاستياء الشعبي الرافض للوجود الغربي والفرنسي خاصة، في منطقة غرب أفريقيا وفي الساحل الأفريقي أيضا. ولعل هذا الأمر ما ساعد على تسهيل مهمة هؤلاء العسكريين، في إقناع الرأي العام الداخلي بشرعية تحركاتهم، ضد الأنظمة الحاكمة.

وهنا يأتي الترحيب الشعبي الكبير بالقادة الجدد، من العسكريين في هذه البلدان؛ فقد حظي العسكريون في الانقلابات الخمسة الأخيرة بـ”دعم شعبي” واسع، بعد إزاحة أنظمة الحكم السابقة، بل بمجرد الإعلان عن تنحية أنظمة الحكم تلك؛ وهي ملاحظة جديرة بالتأمل، خاصة وأنها تُلمح إلى فقدان الثقة الشعبية لدى شعوب هذه البلدان، في أنظمة فشلت في تحقيق الكثير من الوعود بتحسين مستوى المعيشة، والأمن، في البلاد.

أبعاد دولية

فضلًا عن العوامل الداخلية، لا يمكن عزل موجة الانقلابات في غرب أفريقيا، عن الأوضاع الدولية المضطربة، ولا عن الصراع الدولي المحتدم على النفوذ في أفريقيا، ما بين دول الغرب من جهة، وهي صاحبة النفوذ التقليدي في أفريقيا، خصوصا فرنسا والولايات المتحدة؛ وما بين القوى الدولية الصاعدة المتمثلة في الصين وروسيا، التي حققت مكاسب كبيرة خلال السنوات الأخيرة، عبر توسع نفوذها؛ بل، وكانت تلك الانقلابات ضمن العوامل الحاسمة في هذا التوسع.

فقد توجهت مالي وبوركينا فاسو نحو عقد شراكة استراتيجية مع روسيا، وكذلك توجهت النيجر. وفي حين تعتمد روسيا على السلاح دون أي شروط مسبقة مع الدول الأفريقية، فإن الصين تعتمد على القروض والمعونات المقدمة لهذه الدول، دون شروط مسبقة أيضا.

وكما يبدو، فإن العسكريين الجدد يوجهون بوصلتهم في اتجاه روسيا، على حساب فرنسا والغرب، من أجل الخروج من العباءة الغربية عمومًا، والفرنسية تحديدا؛ لاسيما أن باريس قد أخفقت في إنجاز المهمة التي طالما تشدقت بها، منذ انخراطها في المنطقة، منذ عام 2021، أي مواجهة الإرهاب؛ هذا فضلا عن اتهامها (وهو ليس مجرد اتهام عادي في غالب الأحوال) بالاستيلاء على الثروات الأفريقية.

ولنا أن نلاحظ هنا أن باريس لا تمتلك منجما واحدا للذهب، ومع ذلك فهي تأتي في المرتبة الرابعة على مستوى العالم، من حيث احتياطي الذهب؛ وهذا مجرد مثال من الاتهامات بشأن الاستيلاء الفرنسي على موارد منطقة الساحل الأفريقي.

فضلا عن العوامل الداخلية، والأبعاد الدولية، المواكبة لموجة انقلابات الساحل الأفريقي؛ فإن ثمة تداعيات محتملة، لعل من أهمها تمدد المراحل الانتقالية، حيث يبدو بوضوح احتمال عدم التزام العسكريين الجدد، لما أعلنوا عنه من جداول زمنية للمراحل الانتقالية؛ وذلك بحجة أن الأمن يأتي أولًا قبل إجراء انتخابات ديقراطية، وانتقال الحكم إلى سلطات مدنية جديدة.

أضف إلى ذلك، أن بعض المجالس العسكرية، تحاول تمهيد الطريق أمام قادتها لخوض الانتخابات، لأجل الاستمرار في السلطة، كما في مالي حيث أتاح الدستور الجديد للعسكريين الترشح للانتخابات الرئاسية.

ضمن تلك التداعيات أيضا تأتي المواجهة المتوقعة لعددٍ من التحديات الاقتصادية، كنتيجة مؤكدة لتزايد الضغوط الغربية، التي تتضمن عقوبات اقتصادية؛ كنوع من مُعاقبة الحكام الجُدد، والشعوب الأفريقية التي قبلت بهم حكامًا. هذا فضلا عن احتمالات التزايد في التهديدات الأمنية، بسبب تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية، التي تستغل حالة ما بعد الانقلابات لتوسيع حضورها في هذه البلدان؛ مدفوعة بالطبع من عددٍ من أجهزة الاستخبارات الغربية، لتوسيع نشاطها في منطقة الساحل الأفريقي.

واللافت، أن منطقة الساحل الأفريقي، وفقا لتقرير “مؤشر الإرهاب العالمي 2023″، أصبحت مركزا ضخما للإرهاب؛ حيث سجلت المنطقة عددا أكبر من الوفيات الناجمة عن العمليات الإرهابية، في عام 2022؛ مقارنة بمناطق جنوب شرق آسيا والشرق والأوسط وشمال أفريقيا مجتمعة. بل وفي تقرير جديد، يوليو 2023، صادر عن وكالة التنمية الدولية، التابعة للأمم المتحدة، جاء أن المركز العالمي للتطرف الإرهابي العنيف، هو منطقة جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية، بسبب عوامل التردي الاقتصادي.

في هذا السياق.. يمكن القول بأنه رغم التداعيات المحتملة نتيجة الانقلابات في منطقة الساحل الأفريقي، إلا أن ثمة احتمال لتشكل نظام إقليمي جديد في هذه المنطقة، بصعود نخبة عسكرية جديدة إلى السلطة، في عددٍ من دول المنطقة؛ خاصة أن هذه النخبة تُعبر عن توجهات مختلفة عن أنظمة الحكم السابقة، على الصعيد الدولي بالأساس، وفي سياق إقليمي بات يُعبر عن أزمة سياسية حقيقية في المنطقة، بعدما أصبحت الانقلابات العسكرية هي طريقة التغيير السياسي في الساحل الأفريقي.

ويتبقى بعد ذلك التساؤل: هل تستسلم القوى الغربية، خاصة فرنسا، لتراجع نفوذها وخسارتها الكبرى أمام الصين وروسيا، في ميدان التنافس الدولي؛ أم إن المستقبل يتضمن احتمالات أخرى، على الأقل في ما يتعلق بالتحركات الأمريكية في هذه المنطقة؟

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock