يُعتبر حوار النبي شعيب عليه السلام مع قومه “مدين”، من أبرز القصص التي وردت في القرءان الكريم عن الأنبياء الذين دعوا أقوامهم إلى التوحيد والعدل وترك الفساد. كان قوم مدين يُعرفون بالجشع في التجارة والفساد في الكيل والميزان، بالإضافة إلى شركهم وعبادتهم للأصنام. أرسل الله تبارك وتعالى نبيه شعيب ليهديهم ويُصلح أحوالهم، لكنه واجه مقاومة كبيرة من قومه الذين أبوا الاستجابة لدعوته واستمروا في طغيانهم.
ورغم تحذير شعيب لقومه، فإنهم تمادوا في غيهم ورفضوا دعوته، بل استهزأوا به وهددوه بالإخراج من البلدة، إن لم يتراجع عن دعوته.
أسلوب الحوار
بدأ نبي الله شعيب حواره مع قومه بتأكيد دعوة التوحيد، داعيا إياهم إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام التي لا تملك نفعا ولا ضررا. وفي الوقت نفسه، لم يقتصر على الدعوة إلى التوحيد فقط، بل شملت دعوته إصلاح أمورهم الاجتماعية والاقتصادية، حيث دعاهم إلى العدل في الكيل والميزان، وإلى التوقف عن أكل أموال الناس بالباطل؛ كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: “وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡۖ فَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ” [الأعراف: 85].
ومن الواضح، أن نبي الله شعيب لم يأت بالتوحيد، أو دعوة التوحيد فقط؛ ولكن جاء أيضا بأوامر إلهية لقوم مدين: الوفاء بالكيل والميزان، والزجر عن أن يبخسوا الناس أشياءهم، ثم النهي والتحذير من الإفساد في الأرض. ولأن حوار الأنبياء، عادة، ما يتضمن الترهيب والترغيب؛ فقد بدأ شعيب حواره مع القوم بـ”الترغيب” بأن هذه الأوامر الإلهية ستجلب لهم الخير “ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ”، هذا بشرط أن يكونوا مؤمنين “إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ”.
ولعل الدلالة الواضحة في السياق القرءاني، لحوار نبي الله شعيب مع قومه، هى ما يختص بالموقف الاقتصادي والفساد المالي. إذ من أكثر الأمور فسادا التي كان قوم شعيب يفعلونها- الغش في المكيال والميزان، فيأخذون أموال الناس بغير حق، ويستغلون قوتهم لإفساد الأمور.
وهنا، لم يكتف شعيب عليه السلام بمسألة “الترغيب” وحسب؛ ولكنه حاول استخدام أسلوب “الترهيب” من العذاب الإلهي؛ فقد كان يُحذّرهم من أن هذا الفساد سيجلب عليهم العذاب الإلهي إن لم يتوبوا ويعودوا إلى الطريق الصحيح؛ كما ورد في الآية التالية مباشرة، في قوله سبحانه: “وَلَا تَقۡعُدُواْ بِكُلِّ صِرَٰطٖ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَتَبۡغُونَهَا عِوَجٗاۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ كُنتُمۡ قَلِيلٗا فَكَثَّرَكُمۡۖ وَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ” [الأعراف: 86].
في هذه الآية، كان شعيب يحث قومه على التوبة وترك الظلم، مُذَكِّرا إياهم بأن الله قد أعطاهم النعم من بعد أن كانوا قليلين في العدد، وحذرهم من التسبب في إفساد الأرض بظلمهم. وكنوع من “الترهيب”، حاول شعيب تذكير قومه بمصير الأقوام السابقة عليهم، التي رفضت دعوة أنبيائهم، كما ورد على لسانه في قوله تعالى: “وَيَٰقَوۡمِ لَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِيٓ أَن يُصِيبَكُم مِّثۡلُ مَآ أَصَابَ قَوۡمَ نُوحٍ أَوۡ قَوۡمَ هُودٍ أَوۡ قَوۡمَ صَٰلِحٖۚ وَمَا قَوۡمُ لُوطٖ مِّنكُم بِبَعِيدٖ” [هود: 89].
وبالرغم من أن دعوة شعيب كانت واضحة ومليئة بالحكمة، إلا أن قومه قابلوها بالتكبر والعناد. استنكروا عليه دعوته وأصروا على طريقتهم الفاسدة في الكيل والميزان؛ بل، إنهم لم يكتفوا بالرد اللفظي فقط، ولكن هددوا شعيب ومن آمن معه بالطرد أو العودة إلى دين آبائهم. يقول عزَّ وجل: “قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ يَٰشُعَيۡبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرۡيَتِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَٰرِهِينَ” [الأعراف: 88].
دلالات الحوار
ومثلما كان نبي الله نوح عليه السلام يُحاول إقناع قومه بأدلة منطقية، مؤكدا لهم أنه لا يطلب منهم أجرا على دعوته، وإنما هو يُقدم لهم النُصح؛ ومثلما كان أيضا نبي الله هود يُحاول إقناع قوم عاد؛ ومثلما كان كذلك نبي الله صالح يُحاول إقناع قوم ثمود؛ كان، مثلهم جميعا، نبي الله شعيب يحاول إقناع قومه بنفس الأدلة المنطقية؛ كما ورد على لسانه في قوله سبحانه: “قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ” [هود: 88].
إلا أن قوم مدين لم يستمعوا إلى نصيحة شعيب عليه السلام؛ بل كان رد القوم مهينا، حيث وصفوه بالضعف واستنكروا عليه رسالته، وهددوه بالرجم لولا خوفهم من أهله وعشيرته؛ كما ورد في قوله عزَّ من قائل: “قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفٗاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَٰكَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡنَا بِعَزِيزٖ” [هود: 91].
كان رد شعيب على هذا التهديد قويا، إذ أكد لهم أنه لا يمكن أن يعود إلى ملتهم “الباطلة”، حتى لو كانوا يهددونه بالطرد أو الأذى. يقول سبحانه وتعالى: “قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ” [الأعراف: 89].
في هذا الإطار.. كان العذاب، والهلاك، هو النهاية المنطقية لهذا الحوار بين نبي الله شعيب وبين قومه، قوم مدين؛ كما ورد في قوله سبحانه: “فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ” [الأعراف: 91]. وأيضًا، كما ورد في قوله تعالى: “وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا شُعَيۡبٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ ٭ كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّمَدۡيَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُودُ” [هود: 94-95].
وهكذا.. لم تقتصر دعوة شعيب على التوحيد فقط، بل شملت أيضا الجوانب الاقتصادية والاجتماعية؛ خاصة أن الغش في التجارة والتعاملات المالية من أعظم الفساد الذي يمكن أن يدمر المجتمعات، وقوم شعيب كانوا مثالًا على ذلك، حيث كان فسادهم في الكيل والميزان سببًا رئيسًا لهلاكهم.
وللحديث بقية.