ثقافة

قراءة في قصيدة “أرواح معدنية”.. لسامح الحسيني عمر

في قصيدته “أرواح معدنية” يواصل الحسيني إبداعه الذي يعتمد على اقتناص اللحظة وسبر أغوارها، وإغرائها بالبوح بمكنونها.. وهو حاد وجارح على نحوٍ من المكاشفة.. إن تلك الحالة التي تعتري الشاعر، لا تأتيه من باب المُصادفة.. إنه يتحينها.. يرصدها.. يتهيأ لها، فحال المباغتة هنا ليست من طرف واحد بل متبادلة.. الشاعر وقصيدته كلاهما يفجأ الآخر بما لا يتوقعه.. فإن كانت الـ “أرواح تظهر في العزلة” فإن العزلة من صنع الشاعر، وإن كانت “تطير في أنحاء الحجرة” فهذا الفضاء قد أعد لها سلفا لاستحضارها، وأسرها على نحو ما.. وها أنت تراها في حركتها غير المنتظمة، مثل أي فريسة أيقنت أنها وقعت في شراك الصياد “تصطك بقطن المراتب/ بخشب الأثاث/ بالشبّاك/ بعظامي/ بماء الحلم الآسن/ بهلاوس الكتابة/ تركب دخان السجائر/ تكاد تحل محل حوائط الحجرة” و”الاصطكاك” يشي بالارْتِجاف والاضْطِراب في حركة خبط عشواء.

“تصنع حول القلب رفيفا يحاصر الدماغ” وهذا دليل آخر على أن الاستدعاء “عمل قلب” ينافح عن وجوده أفكارا لا سبيل إلى طردها ناهيك عن مناقشتها دون ندم يمزق نياط القلب.

هذه الفوضى لم تصنعها تلك الأرواح المستدعاة.. ولا هي كشفت عتها.. لقد برزت لها فحسب، في موقف دفاعي بحت، فكل هذه التفاصيل تعلن عن حضور واعٍ في تمثُّلات تمور بحياة صاخبة تصنع عالما، يطارد الأحلام ويعيد بناء الواقع، مزيحا الجدران الأربعة بحثا عن براح مفتقد.

يتمسك القلب بحالة الاستدعاء تلك؛ فيستحضر مشهدا طفوليا حين طارت تلك الطائرات الورقية إلى حدائق غنّاء احتلت قبة السماء في مخاتلة ذكية للعالم الذي يجهض الأحلام بانتظام.. ثم نجد القلب ذاته وقد انتابته حالة من القبول والرضا بعد أن سقط متشققا بفعل الأزيز.. حينما انفتح الدماغ لتغزوه أسراب “الدرون” لكنه يستسلم لتلك الحالة “المردية” بينما ينتقل القلب بأحواله إلى خديعة تلو أخرى، تورده الموارد ويعود كـ “جثة” إلى ذات الحجرة “العزلة”.. “مثل سمكة مخلية من الشوك” في غير قدرة على الدفاع عن النفس.. مجردا من الحقيقة.. ربما على نحو مخجل. تضرب الأحداث بتسارعها وجنونها كل توقع في مقتل، حتى أن المقدمات تفضي إلى نتائج مغايرة، الكل يخضع الآن لسطوة العزلة، في عالم صار بامتياز عالم الجزر المنعزلة.. بإفك التكنولوجيا البغيض “معجزة العزلة” التي تفيض منها “فوضى خلاقة” تجتاح الأسواق (أسواق النخاسة) في حين يصير هذا العالم الافتراضي مقصلة يدفع الإنسان إليها ذلك الـ ” شغف محفوف بالموت”. إنها الإتاحة التي تبتذل كل شيء الآن.. حالة من الافتضاح الكامل.. لا تبقي لشيء طعما.. الكل في أتون المحرقة التي “تتهيأ في كتابات “نعوم تشومسكي” الذي فضح كل أساليب الغرب اللا أخلاقية، وحاول مرارا دعوة الشعوب للثورة على هذا النظام العالمي “الفاجر” دون جدوى.. فلقد تحول هذا الصراع المحموم إلى حالة من المراوحة بفعل “حرب المعلومات وسباق التسلح وسيولة الأمكنة”  لكن الذاكرة الخؤون ما تلبث أن تفاجئه مجددا بمشهد سال فيه العمر الغض  فوق تلك الشوارع في ليل  يستقي ء تفاصيله ويحوّل كل ما تطاله يداه إلى عتمة .. إثر محاولة لأن تمنح  ما لا تملك لمن لا يستحق تطيش الأقمار خلف غيامات ، يؤرجها التاريخ أمام ناظرينا في مشانق الصباح التي علّقها “دنقل” منذ زمن. حيث يختص الموت نفسه بتقديم الحلول الجذرية فـ ” يحل تناقضنا ويوحد بين القطرين /الروح والجسد المتسارع كالعمر”.

تستمر حالة الاستدعاء ربما لحسم  عدد من المعضلات قبل الاستسلام التام لهيمنة  ذلك الموات الذي صار عصيا على  البعث .. لنعد إذن بعض الأمور إلى نصابها، لنطرح سؤالا على هرمس صاحب المتون، “هل أصل اللغة امرأة نزعت رحم أمومتها وألقت آتوم إلى الحرب وسيَّرت الجغرافيا بعيدا وحرفت التاريخ ، فحل الغل بقلب الخل، وقتل قابيل هابيل  وصار الوقت  كلاما وأساطير”  إنه سؤال يحمل من الإجابات ما يفوق طاقته! فهو يفترض نشأة أخرى للغة غير ما نعلم،  لم يكن ثمة خطوة واحدة في مسار اعتيادي.. نزع رحم، إلقاء ابن في أتون الحرب، نبذ الجغرافيا، تحريف التاريخ، استبدال الغل بالمودة في قلب الصديق، كمسوغ مقبول للقتل البدائي والممتد عبر تاريخ موحل بالدماء .. في إزهاق متكرر للمعنى الذي “صار الوقت  كلاما وأساطير ” معه.. ليعود من تلك الرحلة  بلا شيء سوى التسليم بالضعف المطلق والهزيمة المتحققة .. في مباريات الحياة القاسية الشحيحة كـ ” قُرص الرحمة عند  مقابر صدقة”.  بقدر ما نحمله من أسى يصعب العالم ويثقل ويصخب، لكنه حين يخلو منا بفعل الإبعاد والنبذ “يهمد أو يبلى”.

لم يعد ثمة فارق.. كل شيء صار اعتياديا.. مع انتهاء الرحلة “لينوب كلام مكتوب عن روح مهدور” ويفصح الموت -دون تخصص- عن كيفية حياة انقضت وتعددت الأسباب ” يا الله العالم مقلوب فاعدلني علي القبلة”. وهي مباغتة  تشف عن  رجاء عميق لم ينقطع يوما.. فإن كان من الصعوبة بمكان استعدال العالم.. فإن الأيسر أن نزيح ذلك الركام، ونتبع القلب في توجهه نحو طريق النجاة.. أو نحو ذلك أو شيئا منه أو بخلافه مما يستدعي تأملا مغايرا لذلك المعنى المناوئ.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock