شهدت العلاقات بين تركيا والسودان تطورا ملحوظا في السنوات الأخيرة، خاصةً منذ أن بدأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يتبنى سياسة خارجية توسعية، تهدف إلى استعادة النفوذ التركي في مناطق ما كان يُعرف قديما بجغرافيا “الدولة العثمانية”.
وتأتي السودان على رأس هذه الدول، لما تمتلكه من موقع استراتيجي وثروات طبيعية وبُعد جيوسياسي بالغ الأهمية. وقد لفت لقاء قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بالرئيس التركي -خلال منتدى أنطاليا الدبلوماسي، المنعقد في تركيا، في الفترة 11-13 أبريل الجاري- الأنظار من جديد إلى طبيعة التوجهات التركية في السودان، وما تحمله من دلالات سياسية واقتصادية وعسكرية.
ففي إطار النسخة الرابعة من منتدى أنطاليا الدبلوماسي، التقى البرهان وأردوغان في جلسة مغلقة، أعقبتها تصريحات مقتضبة أكدت على “أهمية دعم العلاقات الثنائية بين البلدين”، و”حرص تركيا على استقرار السودان”.
لم تكن هذه التصريحات مفاجئة، لكنها تؤكد استمرار المساعي التركية لتعزيز حضورها في السودان، رغم الأوضاع المعقدة التي تمر بها البلاد منذ اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، منذ منتصف أبريل 2023. فتركيا لم تتخلّ عن السودان كحليف محتمل، بل تسعى إلى استثماره كورقة استراتيجية في سياستها الأفريقية والبحر الأحمرية.
دوافع تركية
بالطبع، ثمة عدد من الدوافع التركية في الإصرار على التوجه نحو السودان.. لعل من أهمها:
من جهة، الموقع الجيواستراتيجي الذي يتمتع به السودان؛ فالسودان يتمتع بموقع فريد بين شمال وشرق أفريقيا، ويطل على البحر الأحمر الذي يمثل شريانا حيويا للتجارة العالمية. هذا الموقع يمنح السودان أهمية خاصة في الحسابات التركية، التي تنظر إلى البحر الأحمر كمنطقة تنافس كبرى، ليس فقط مع القوى الإقليمية، مثل مصر والسعودية والإمارات، بل أيضا مع القوى الدولية مثل روسيا والصين والولايات المتحدة.
من جهة أخرى، الثروات الطبيعية والاستثمارات؛ فالسودان بلد غني بالذهب والمعادن والنفط والموارد الزراعية. وكما يبدو.. تطمح تركيا إلى الدخول بقوة في هذه القطاعات، عبر استثمارات وشراكات تُمنح لشركاتها، وخاصة في ظل حاجة السودان إلى شراكات اقتصادية لدعم اقتصاده المنهك، في ظل دخول الصراع في البلاد عامه الثالث.
من جهة أخيرة، النفوذ التاريخي والديني؛ إذ تلعب العاطفة العثمانية دورا في السياسة التركية تجاه السودان، فتركيا ترى في السودان جزءا من امتدادها التاريخي، وتحاول استعادة هذا النفوذ من خلال البُعد الديني والثقافي، لا سيما في المناطق الشرقية، مثل “سواكن” التي كان العثمانيون يستخدمونها ميناءً عسكريا وإداريا.
أضف إلى ذلك، أن تركيا تنافس بوضوح قوى مثل: مصر والإمارات والسعودية في السودان، وتسعى لتأمين موطئ قدمٍ لها في المعادلة السودانية الجديدة، خصوصا في ظل غموض الأوضاع الأمنية والسياسية.
مجالات استراتيجية
تتعدد مجالات التوجه التركي نحو السودان، وتتنوع تبعا لما تتسم به تلك المجالات من جوانب استراتيجية.. كالتالي:
من جانب، محاولة التواجد على شواطئ البحر الأحمر؛ فمن أبرز مؤشرات الأطماع التركية مشروع إعادة تأهيل جزيرة سواكن، الذي أعلن عنه في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، عام 2017.
ورغم تجميد المشروع بعد سقوط البشير وإزاحته عن السلطة، فإن تركيا لم تُسقِط هذا الملف من حساباتها، وتسعى لإحيائه ضمن صفقة أوسع مع القيادة العسكرية الحالية للجيش السوداني.
من جانب آخر، الاستثمارات والتغلغل الثقافي؛ إذ تمتلك تركيا واحدة من أكثر الشركات نشاطا في مجال البناء والتعدين بأفريقيا، وتسعى للحصول على امتيازات في استخراج الذهب بالسودان، بالإضافة إلى مشاريع زراعية تستفيد من خصوبة الأراضي السودانية ومياه النيل.
هذا فضلا عن المعاهد التركية والمدارس الدينية التابعة لجماعة “وقف المعارف”، تلك التي تنتشر في الخرطوم وبعض المدن السودانية الكبرى، وتُستخدم كوسائل ناعمة لبناء نفوذ ثقافي وتعزيز الصورة التركية في المجتمع السوداني، خصوصا في أوساط الشباب.
من جانب أخير، العلاقات العسكرية والتدريب الأمني؛ فمنذ سنوات وقّعت تركيا والسودان اتفاقيات تعاون عسكري تشمل التدريب وتبادل الخبرات. وتشير بعض التقارير إلى استمرار التنسيق غير المعلن بين أنقرة والجيش السوداني، وهو ما قد يتوسع مستقبلا إذا نجحت تركيا في تثبيت علاقات مؤسسية مع قيادة الجيش.
تداعيات إقليمية
الإصرار التركي على التوجه نحو السودان، ومحاولة التمركز داخله عبر الاستثمارات وغيرها من النشاطات التركية، لها من التداعيات الإقليمية ما يجعلها في موقف تنافسي مع القوى الإقليمية العربية، فضلًا عن تنامي التوتر الإقليمي، بما يؤثر على التوازن على الأقل في البحر الأحمر.. وذلك كما يلي:
من ناحية، التنافس التركي مع القوى العربية الإقليمية؛ حيث إن دخول تركيا على خط السودان، لابد أن يُقابل بتوجس من محور القاهرة الرياض أبوظبي، الذي يعتبر السودان ضمن مجاله الحيوي، ويرى في أي نفوذ تركي تهديدا لمصالحه الاستراتيجية. فالسعودية تتطلع إلى البحر الأحمر كمجال أمن قومي، والإمارات لديها استثمارات كبرى في الموانئ والزراعة، ومصر ترى أن أي تحالف تركي – سوداني قد ينعكس سلبا على ملف سد النهضة وأمن النيل.
من ناحية أخرى، توظيف التوتر السوداني لصالح تركيا؛ إذ تستفيد تركيا من حالة الانقسام بين الأطراف السودانية، وعدم قدرة أي طرف على بسط السيطرة الشاملة، لتلعب دور الوسيط أو الداعم في الوقت المناسب، بما يخدم مصالحها طويلة المدى. فالبرهان يبحث عن شرعية ودعم دولي، وتركيا تعرض نفسها كشريك “غير استعماري”، خلافا للغرب وبعض الدول العربية.
من ناحية أخيرة، التأثير على التوازن الإقليمي في البحر الأحمر؛ فإذا نجحت تركيا في تعزيز وجودها في البحر الأحمر عبر السودان، فإن ذلك قد يعيد رسم موازين القوى في المنطقة، خصوصا مع وجود قواعد تركية في الصومال، واتفاقيات تعاون مع جيبوتي وإريتريا. وبالتالي، قد نرى في المستقبل تحالفا تركيًا أفريقيًا عابرا للحدود، يهدد النفوذ الغربي والعربي التقليدي.
فصل جديد
في هذا الإطار.. يمكن القول إن المعطيات تشير إلى أن تركيا لن تتخلى عن السودان بوصفها جزءا من استراتيجيتها الأوسع في أفريقيا والبحر الأحمر، خاصةً في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة. ومع أن الطريق أمام أنقرة محفوف بالتعقيدات، فإنها تُجيد استخدام أدوات “القوة الناعمة” و”الفرص الميدانية” لتحقيق اختراقات استراتيجية. أما السودان، فيبقى ساحة مفتوحة للتجاذبات الدولية، حيث يسعى كل طرف لحجز مكانه في مستقبل البلاد الغامض.
ومن ثم، فإن اللقاء بين البرهان وأردوغان في أنطاليا، يؤشر إلى بداية فصل جديد في العلاقات، لكنه لا يعني بالضرورة تحولا جذريا. فالبرهان بحاجة إلى تنويع داعميه في ظل عزلة دولية نسبية، وتركيا تبحث عن فرص لاستعادة نفوذها في السودان بعد انتكاسة سقوط نظام البشير. لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب توازنًا دقيقًا بين المصالح، وقدرة على اللعب في ساحات متقلبة.
في الوقت نفسه، من غير المستبعد أن تقدم تركيا مساعدات عسكرية أو استخباراتية غير معلنة، خاصةً إذا رأت أن تعزيز قوة الجيش يصب في صالح تثبيت شريكها الاستراتيجي. كما قد نشهد عودة لمشروع “سواكن” ضمن إطار تفاهمات اقتصادية – أمنية جديدة، خصوصا إذا ما تُوصِّل إلى وقف إطلاق نار شامل بين الجيش والدعم السريع.