رؤى

تجربة الصين.. في الحد من معدلات “الفقر”

تبرُز التجربة الصينية في مكافحة الفقر، كواحدة من أهم التجارب التي لاقت نجاحا ورواجا كبيرا؛ جعل منها نموذجا جديرا بالمناقشة والدراسة. وبالطبع لم يكن هذا النجاح وليد الصُدفة؛ بل كان نتاجا لقناعة الدولة الصينية بضرورة استئصال الفقر، عبر القيام بإصلاحات جذرية، اقتصادية واجتماعية، للحد من الفقر، وتقليل أعداد الفقراء.

إذ على مدار أربعين سنة، بين عامي 1978- 2018، استطاعت الصين تقليص الفقراء من 97.5 %، إلى 0.6 %، أي بنحو 765 مليون شخص. وهذا الأمر، لم يرد في أرقام صينية؛ وإنما ورد في تقرير أعده البنك الدولي بالشراكة مع مركز “بحوث التنمية” الصيني. المُلاحظ أنه في تلك الفترة، ازداد الناتج المحلي الفردي بنسبة 8.2 % سنويا، بينما كانت أعداد الفقراء تنخفض بنحو 2.3 %، وفقا لبيانات المكتب الوطني للإحصاء الصيني.

وهنا يبرز التساؤل: كيف لدولة هي الأكثر تعدادا في العالم أن تعلن في 25 فبراير 2021، على لسان الرئيس الصيني شي جين بينغ، بالإعلان عن أن “الصين قد حققت انتصارا كاملا في معركتها ضد الفقر”؟

ملامح النموذج

يُمثل النموذج الصيني في الحد من الفقر تجربة فريدة، تستحق النظر إليها باهتمام؛ بل سوف يُسجل التاريخ الإنساني أن الصين، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من مليار وأربعمائة مليون نسمة، أي ما يقارب “خُمس” سكان العالم؛ قد تمكنت لأول مرة في تاريخها من القضاء على الفقر، بعد أن استطاعت التغلب على عديد من الصعوبات، وحققت نصرا كاملا في الموعد الذي حددته الحكومة الصينية، عام 2020، في مكافحة الفقر.

وضمن أهم الأرقام التي يتوجب ذكرها، في هذا المجال، تلك التي استشهد بها ما شينمين، سفير الصين لدى جمهورية السودان في مقال له في صحيفة “سودانيز فويز” الإنجليزية، بعنوان “الطريق إلى إزالة الفقر وفقا للخصائص الصينية”؛ حيث استعرض نجاحات الصين ومُقاربتها في سياسات القضاء على الفقر عبر الخصائص الصينية. وذكر أنه: “لقد تم إخراج 98.99 % من القرى التي كانت تعيش تحت خط الفقر من دائرة الفقراء؛ فقد أنجزت الصين المُهمة الشاقة بالقضاء على الفقر، حيث أخرجت 832 مُقاطعة، و128 ألف قرية، وأصبح الفقر الذي ظل يُطارد الشعب الصيني لأكثر من ألفي سنة، من قصص الماضي”.

وفي إطار المقارنة مع دول أخرى، بخصوص معدلات الفقر في الصين، ونظيرتها في هذه الدول؛ يمكن الإشارة إلى كل من تركيا والبرازيل، كمثالين:

أولا: تركيا.. أرقام ومؤشرات:

ضمن المُقارنة الواجبة بين نسبة الفقر في الصين، في ما بعد عام 2020، التي وصلت إلى ما نسبته 0.3 % من السكان وتركيا.. نجد أن الفارق يبدو مُذهلًا بين التجربة الصينية والتركية. فقد كشف معهد الإحصاء التركي (TÜİK) في تقرير له نُشر في أوائل مايو من العام الماضي، عام 2023، عن أن هناك 17 من كل 100 شخص في تركيا تحت خط الفقر المدقع، وأن معدل الفقر الدائم قد ارتفع بمقدار 0.20 نقطة مُقارنة بالعام 2022.

أما البنك الدولي، فقد كشف في تقرير له، بعنوان “المرصد الاقتصادي لتركيا.. إيجاد طريق بين الأمواج”، أن معدل الفقر في تركيا وصل إلى نسبة 12.2 %، في عام 2020؛ بعد أن كان 10.2 %، في عام 2019؛ مُشيرًا إلى أن وباء “كورونا” قد تسبب في خسائر فادحة للاقتصاد التركي.

ثانيًا: البرازيل.. أرقام ودلالات:

وهنا لا بد من الإشارة إلى محاولة الرئيس لولا دا سيلفا، للتخفيف من حدة مشكلات الفقر والجوع في البرازيل، تلك التي تمثلت في برنامج “محو الجوع”، الذي أطلقه في عام 2003؛ والذي جاء في إطاره مشروع “علاوة الأسرة”، الهادف إلى “تحويل الأموال ومنحها للأسر الفقيرة، شريطة إبقاء أطفالها مُقيدين في المدارس”.

وبحسب مؤسسة “غوتيليو فير غاس”، فقد استطاعت  حكومة دا سيلفا، خلال الفترة 2003-2011، تخفيض نسبة الفقر على أساس دخل العمل بنسبة 9.8 %، خلال شهري يونيو 2002، ويونيو 2006؛ حيث بلغ معدل الفقر المدقع، في يونيو 2006، ما نسبته 18.57 % من السكان. رغم ذلك، ورغم بعض النجاحات التي استطاعت البرازيل تحقيقها، بخصوص محاولة الحد من الفقر؛ ورغم كونها من أكبر منتجي المواد الغذائية في العالم، إلا أنها عادت لتُصنف مُجددًا على “خريطة الجوع” لمنظمة الأمم المتحدة، منذ عام 2020، بعد أن كانت غائبة عن تلك القائمة لمدة 8 سنوات.

دروس التجربة

يُمثل النموذج الصيني في الحد من الفقر تجربة فريدة؛ ويمكن التأكيد على مجموعة من المؤشرات، التي تُعبر عن كيفية الاستفادة من التجربة الصينية، ومؤشراتها في كيفية مكافحة الفقر:

فقد استثمرت الصين ملايين الدولارات على مشروعات البنية التحتية خارج المدن؛ فمدت شبكات الطرق وشيدت الأسواق والمرافق الخدمية، وقامت بضخ مبالغ إضافية في برامج التمويل الأصغر والتجارة الإلكترونية. ولتوفير التمويل اللازم، اتخذت الحكومة الصينية أسلوب “التوْءَمة”، بين المقاطعات الشرقية الغنية والمقاطعات الغربية الفقيرة، علاوة على الشركات الخاصة؛ فخرج الكثيرون من براثن الفقر عن طريق التعليم أو الإنتاج أو الانتقال من مكان لآخر.

من جانب آخر، الاعتماد على الذات والتغير المفاهيمي؛ حيث عملت الصين على تغيير أنماط الحياة وطرائق التفكير، عبر توفير وتطوير التعليم للفقراء، وتوجيهه ليعمل بالتوازي مع المجهودات الأخرى، الدافعة في تخفيف اعتمادهم على الحكومة، واعتمادهم على ذواتهم؛ فضلا عن حثهم على النمو الذاتي والمحافظة على هذا النمو.

من جانب أخير، الاستثمار العام للقضاء على الفقر؛ إذ عملت الصين على تسخير النمو الاقتصادي، في تخفيض أعداد الفقراء، عبر تفعيل سياسة الاستثمار؛ وهي واحدة من السياسات الفعالة التي بدأت في مطلع القرن الحادي والعشرين، التي تنطوي بداخلها على خطط مرحلية، مدة كل منها خمس سنوات. ومن خلال هذه الخطط، تم التركيز على تنسيق التنمية الريفية والحضرية، وتعزيز مجالات ومحركات جديدة لها، للوفاء بالمتطلبات المعيشية والثقافية.

تجربة إنسانية

في هذا السياق، يُمكن القول بأن النجاحات التي حققتها الصين، في تجربتها لمكافحة الفقر، لم تكن عملًا اعتياديًا، وإنما “تجربة إنسانية” مُلهمة تستحق الدراسة بتعمق؛ لأنها ذات أبعاد حزبية برامجية، وحوكمة تنفيذية ذات خصائص صينية، وشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص. أيضا، فقد ساهمت السياسات التي اتبعتها السلطات الصينية، عبر إتاحة المعلومات لوضع السياسات العامة لعملية مكافحة الفقر، في تعزيز فهم التوزيع المتغير للفقر في المناطق الريفية بالصين، طبيعته وأسبابه؛ وبالتالي، أصبحت حركة الأيدي العاملة عنصرًا رئيسيًا في برنامج الحكومة لمكافحة الفقر.

لقد تخلصت الصين من وصمة الفقر، وقدمت نموذجًا رائدًا على المستوى العالمي، في إمكانية مكافحة الفقر؛ لذا بات على كل الدول، خاصة في جنوب العالم، التوجه شرقًا إلى الصين للاستفادة من تجربتها في استئصال الفقر، والتي أحد أهم خصائصها أنها “صُنعت في الصين”، ولم تكن نسخًا آليًا لأي تجربة أخرى.

وبكلمة.. إن مكافحة الفقر في الصين، لا تُعد محط إشادة من المجتمع الدولي فحسب، وإنما تُقدم خبرات قيمة لبعض الدول العربية، التي تتشابه مع الصين في بعض من الظروف الوطنية، للاستفادة من هذه التجربة الرائدة.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock