رؤى

الجدل والحوار.. مقدمة في “الجدل” القرءاني

ما الجدل؟ وما الحوار؟ هل يلتقيان؟ وإن كان فما هي نقاط التلاقي بينهما؟ ثم ما الفارق بينهما؟ والأهم، ما دلالة كل من الجدل والحوار في آيات التنزيل الحكيم؟ هذه وغيرها تساؤلات كُثُر تطرح نفسها عند الحديث عن كل من الجدل والحوار. وقد انطلقنا من هذه التساؤلات نفسها عند الحديث عن الحوار بشكل عام، والحوار في التنزيل الحكيم، صوره وأنواعه ودلالاته.. ووصلنا إلى أن الحوار يتمحور حول مسألة “النقاش الكلامي”.

ولعل الموضع الوحيد، في آيات التنزيل الحكيم، الذي ورد فيه أحد مشتقات لفظ “جدل” مع أحد مشتقات لفظ “حور”؛ هو قوله سبحانه وتعالى: “قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ” [المجادلة: 1]

فما نقاط التلاقي بين الحوار والجدل؟ وما نقاط الاختلاف بينهما؟

مادة الحوار

كما سبق أن أشرنا، فإن الحوار، في اللسان العربي، من “حوُر” وهو “الرجوع والتردد بين شيئين” والحَوْر “النقصان بعد الزيادة، لأنه رجوع من حال إلى حال”. والحوار، في حقيقته، ظاهرة إنسانيّة، وهو أسلوبٌ يجري بين طرفين، يسوق كل منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في رأيه قاصدا بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره.

ولم يرد لفظ “حوار” في القرءان الكريم إلا في مواضع ثلاثة؛ جاءت اثنتان منها في سورة الكهف، وذلك في معرض الحديث عن قصة “صاحب الجنتين” وحواره مع صاحبه الذي لا يملك مالا كثيرا؛ أما الموضع الثالث فقد جاء في سورة المجادلة. إلا أن لفظ “حَوْر” قد ورد في موضع رابع في سورة الانشقاق، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ” [الانشقاق: 14]

ومن المنطقي أن الحوار في التنزيل الحكيم لا يمكن حصر مساحته في الآيات الكريمات التي تتضمن مادة “حوار” فقط؛ إذ يمكننا أن نعتبر كل المواد الحوارية الواردة في القرءان الكريم، بمثابة الشاهد على مسألة الحوار القرءاني. لذا فإن الحوار في القرءان الكريم، يُعبر عن أداة لإيصال الحقيقة؛ وقد ورد في سياقات عديدة: بين الأنبياء وأقوامهم، بين الله والملائكة، بين الإنسان ونفسه، وحتى بين أهل النار وأهل الجنة.

بل إن الحوار قد تجلّى في التنزيل الحكيم بوصفه وسيلة تربوية وتعليمية، ومنهجا في الدعوة والتفهيم، بل وسُجّل حتى بين الله والإنسان، مثل الحوار بين نبي الله موسى وربه سبحانه، كما في قوله تعالى: “وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ…” [الأعراف: 143]

ثنائية الجدل

بالعودة إلى أهم معاجم اللغة العربية، لنا أن نُلاحظ ما يذكره ابن فارس في كتابه “معجم مقاييس اللغة”، من أن “جدل: الجيم والدّال واللام أصل واحد، وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام”. أما أبو الوليد الباجي، في كتابه “المنهاج في ترتيب الحجاج”، يُعرِّف الجدل بأنه “تردد الكلام بين اثنين قصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه”.

أما الجرجاني، فيذكر في “التعريفات” أن الجدل هو “القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، والغرض منه إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان، أو هو دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة”.

وكما يبدو، فإن الجدل، تبعا للتعريفات السابقة، لا يكون إلا بين اثنين متنازعين فأكثر، وهو ما نلاحظه في ما أورده ابن فارس، والباجي، فضلا عن الجرجاني؛ وهو، أيضا، ما نلاحظه في تعريف أبي البقاء العكبري، في كتابه “الكليات”، حيث يُعرِّف الجدل بأنه “عبارة عن دفع المرء خصمه، عن فساد قوله بحجة أو شبهة، وهو لا يكون إلا بمنازعة غيره”؛ إذ يمكن ملاحظة كيف يقترب كل من العكبري والجرجاني من بعضهما في تعريف الجدل.

إلا أن هناك، من المفكرين والباحثين، من خرج بمفهوم الجدل عن مسألة النقاش الكلامي، ليصل به إلى كونه قانونا ضمن القوانين التي تحكم الطبيعة، مثل المنهج “المادي الجدلي”؛ ومنهم ما وصل به إلى أن يكون قانونا خاصا بالإنسان، أي قانونا نوعيا يتعلق بالإنسان دون الطبيعة، مثل منهج “جدل الإنسان”؛ ومنهم، أخيرا، من وصل به إلى أن يكون قانونا للمتناقضات سواء في الطبيعة أو داخل الدماغ الإنساني.

وأيًا يكن الأمر، فإن ما يمكن التمسك به من خلال تلك التعريفات السابقة، وغيرها، أن الجدل هو صراع، أو تناقض، بين شيئين. صحيح أن غالبية التعريفات التي تناولت مفهوم الجدل، اعتمدت على استناد هذا المفهوم إلى الاختلاف في المناقشة، ومحاولة كل طرف إثبات صحة رؤيته، أو منهجه؛ إلا أنه من الصحيح، أيضًا، أن معظمها يتفق على مسألة “التناقض أو الصراع بين شيئين”، شخصين كانا أو فكرتين، أو حتى شيئين ماديين.

وهو ما يعني أن “الجدل” -بوصفه مفهوما- يقوم على “الثنائية”.

الجدل القرءاني

وردت لفظة “جدل”، ومشتقاتها، في “تسعة وعشرين” موضعا؛ جاءت في معظمها تحمل مضمونا سلبيا من حيث الدلالة، إلا في أربعة مواضع ورد فيها مصطلح “الجدل” ليتضمن دلالة إيجابية.. إلا أننا، على نحو مُتشدد بالضرورة، لن نتعجل مثل الكثيرين الذين قالوا: “إن أغلب الجدل والجدال مذموم يؤدي إلى المنازعة”؛ إذ إن مثل هذا القول في نظرنا غير صحيح، حيث من الواضح أنه قول يَرِد في معرض الفهم السطحي لمفهوم الجدل ودلالاته؛ والأهم، فلسفته بوصفه “قانونا حاكما” للنتيجة التي تُسفر عنها العلاقة بين شيئين في وضعية التناقض أو التصارع. هذه النتيجة، أو ناتج مسألة التناقض والتصارع، هي ما يهمنا من المنظور الفلسفي، وليس الإيهام السطحي المنتشر بين كثير ممن تصدوا لهذه المسألة.

لذلك، لنا أن نحاول تلمس فلسفة الجدل القرءاني، عبر الدورة الدلالية للمصطلح في آيات الله البينات. ولعل نقطة الانطلاق تكون من المواضع الأربعة التي ورد فيها المصطلح متضمنا دلالة إيجابية.

إضافة إلى آية سورة المجادلة: “قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ” [المجادلة: 1]؛ يقول سبحانه وتعالى: “فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ” [هود: 74].. ويقول سبحانه: “وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ…” [العنكبوت: 46].. ويقول تعالى: “ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ…” [النحل: 125].

وهنا، لنا أن نلاحظ، بداية، الاختلاف الدلالي لمفهوم الجدل في الآيتين الكريمتين الأولى والثانية، عنها في الآيتين الثالثة والرابعة؛ إذ، إن مصطلح الجدل جاء، في هاتين الأخيرتين، مُصاحبًا للتعبير القرءاني “بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ…”؛ بما يؤكد أن هذه المُصاحبة إنما تتغيا النتيجة الإيجابية للجدل.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock